وكالة الأنباء اليمنية (سبأ)

باكستان.. مارد “ممنوع” من الانطلاق

السياسية:
أهم ما يجب أن نعرفه عن هذه الدولة الإسلامية وأسباب قوتها السياسية والضغوط التي تواجهها والمصالح المشتركة مع دول الخليج

هي ملحمة دخلت التاريخ قبل عدة عقود باسم دولة باكستان.
تقف في الصفوف الأولى بين أكبر الدول الإسلامية سكاناً والأقوى جيوشاً.
صاحبة التجربة النووية الوحيدة في عالم الإسلام السني، والرقم الصعب في صراعات القوى الكبرى على النفوذ في وسط وغرب آسيا، وفي الصراعات القريبة منها والبعيدة أيضاً.
عادت باكستان لعناوين الأخبار في ربيع 2022 بعد الإطاحة بحكومة عمران خان، النجم الرياضي والسياسي المثير للجدل.
أزمة أعادت للأذهان كل العناصر الدرامية التي تشكل هذه الملحمة التي تحمل اسم باكستان.
الانهيار المفاجئ لحكومة خان يكرّس استقرار واحدة من الظواهر السياسية التاريخية في باكستان منذ تأسيس الدولة في عام 1947، وهي عدم قدرة أي حكومة باكستانية على إكمال مدتها الدستورية، باستثناء الحكومات المؤقتة.
باكستان هي ذلك العملاق الهادئ الذي يهتم به الجميع، لأن هدوءه قد يتحول إلى صخب دون سابق إنذار.
هي نموذج محيّر للدولة.
أنشأت جيشاً قوياً، ولديها أسلحة نووية، كما طوّرت صناعة أسلحة متقدمة بالنسبة لأغلب أقرانها في العالم الثالث، ولديها قاعدة علمية قوية.
فلماذا لا يخشى منها الجار القريب والخصم البعيد؟
لكنها في المقابل تعاني اقتصادياً، وديمقراطيتها تتعثر بتدخلات الجيش وإمكانيات التأثير على إرادة المواطنين، ثم إنها ضحية حالة مزمنة من الفساد والمحسوبية.
فما هي أسباب أزمات باكستان الاقتصادية والسياسية؟
ولماذا يجب أن يهتم العالم العربي بما يجري في باكستان؛ الدولة النووية.. ثاني أكبر دولة مسلمة بعد إندونيسيا؟
هذا التقرير يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، باستعراض أهمية باكستان في دوائرها الإسلامية والآسيوية، والإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها هذه الدولة الفريدة، والتي تجعل منها مارداً عسكرياً واقتصادياً، والضغوط التي تحول دون ذلك.

* الجيش يحكم “من وراء ستار”
الجنرالات يتخذون القرارات في السياسة الخارجية والاقتصاد والأمن ويصنعون تاريخاً طويلاً من الانقلابات

إسقاط الحكومة حدث معتاد في باكستان.
لم يُكمل أي رئيس وزراء في تاريخ البلاد مدة حكومته البالغة خمس سنوات لأسباب متنوعة، ارتبطت في مناسبات كثيرة بالصراع السياسي الداخلي بين قادة الجيش والحكومات المدنية.
أو بين القوى السياسية المتنافسة.
ولا يوجد نص في الدستور الباكستاني يعطي الجيش دوراً مباشراً في الحكم، لكنه مع ذلك ظل أحد الفاعلين الرئيسيين في الحياة السياسية، في باكستان لعقود طويلة كان الجيش الباكستاني الحاكم الفعلي للبلاد.
ومن إجمالي حوالي 75 عاماً، هي عمر الدولة الباكستانية، سيطرت الأنظمة والحكومات العسكرية على السلطة بشكل مباشر لمدة 30 عاماً تقريباً.
والسياسيون المدنيون، بدورهم، إما أنهم كانوا مؤيدين للجيش أو أطاحت بهم المؤسسة العسكرية.
وتقليدياً، يتوغل الجنرالات المتقاعدون في مناصب الدولة العليا، مثل السفراء وإدارة السلطة الوطنية لإدارة الكوارث.
لكنهم انتشروا تدريجياً في المزيد من الوظائف الأساسية في عهد خان، فهم يديرون هيئة الطيران المدني والمعهد الوطني للصحة والعديد من الشركات المملوكة للدولة، بما في ذلك شركة الطيران الوطنية والهيئات الحكومية المسؤولة عن الكهرباء والمياه والاتصالات والإسكان، حسب تقرير مجلة The Economist.
الجيش ساهم في تتويج عمران خان للتخلص من خصومه
يؤكد السياسيون المعارضون أن الجيش هو الذي منح خان منصبه السياسي.
في المقابل، كما يقولون، أدار خان حكومة خاضعة لا مثيل لها للجنرالات، رغم مؤشرات على توتر العلاقة في نهاية حكمه.
كانت العلاقة بين خان والجيش الباكستاني تبدو مركبة للغاية.
تم انتقاد خان لكونه قريباً جداً من الجيش منذ أن وعد بتأسيس “باكستان الجديدة” للتخلص من الفساد والمحسوبية بعد فوزه في انتخابات 2018.
وحتى فترة قريبة كان يوصف عمران خان بأنه من أكثر رؤساء الحكومات في باكستان تحالفاً مع العسكريين بل يتهم بالتبعية لهم، لكن مراقبين يشيرون إلى خلافات بين الجانبين سبقت إطاحته من الحكومة، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي.
وزعمت جماعات حقوقية، علاوة على عددٍ من الأكاديميين والدبلوماسيين الغربيين والمحللين السياسيين، أن الجيش والأجهزة الأمنية الباكستانية، والتي يُشار إليها بشكلٍ غير مباشر باسم “المؤسسة”، استهدفوا بأسلوبٍ ممنهج منافسي خان السياسيين في الأشهر التي سبقت الانتخابات، وساعدوه على الفوز.
ويزعم خصوم خان أن حراس صناديق الاقتراع منعوا الدخول إلى غرف فرز الأصوات في يوم الانتخابات، ما أثار الشكوك حول حدوث مزيدٍ من التلاعب.
واتهم أعضاء من الأحزاب المنافسة الضباط المسؤولين عن متابعة الانتخابات بتزوير النتائج، وقالوا إن العديد من الأصوات قد أحصيت سراً تحت حراسة الجنود. غير أن سلطات الانتخابات الباكستانية قالت إن الانتخابات التي أُجريت صيف 2018، كانت نزيهة.
والجيش تخلص من عمران خان بعد خلافات “سياسية”
لم يكن عمران ينتقد الجيش صراحة، لكنه في كتاب عن السياسة في باكستان نشر في 2011 يمسك بالعصا من المنتصف فيقول “لا تستطيع إلا حكومة ذات مصداقية إنقاذ وتقوية الجيش الباكستاني من خلال ضمان بقائه داخل حدود دوره الدستوري. ليس لدينا خيار آخر.. لا بد أن نجعل باكستان ديمقراطية حقيقية حتى نستمر”.
لكن الخلاف ظهر إلى العلن في بداية 2022، عندما اختار قائد الجيش مديراً جديداً لقيادة المخابرات الداخلية المعروفة بـ”ISI”، التي تشرف على الأمن الداخلي لباكستان، على غير رغبة خان.
وعندما بدأت أزمة أوكرانيا اتخذ عمران موقفاً مفاجئاً بتأييد روسيا، وهي الحليف المباشر للهند، جارته اللدود. وأغضب ذلك الولايات المتحدة كثيراً.
وفي انقسام سياسي نادر بادر الجيش بإدانة الغزو الروسي مناقضاً رئيس الحكومة، وقال الجنرال قمر جاويد باجوا إن الغزو الروسي لأوكرانيا هو “مأساة كبيرة يجب وقفها على الفور”.
وأكد حرص بلاده على علاقة متوازنة بين الصين وأمريكا، في وقت تبدو فيه باكستان في عهد عمران خان تزداد قرباً من بكين وابتعاداً عن الغرب.
وانتهى شهر العسل المزعوم بين الحكومة المدنية والجيش، أو “المؤسسة” كما يسميه أبناء باكستان.
بالنسبة للمؤسسة كان خان يمثل الاستقرار في يوم من الأيام- خاصةً مع تعافي الاقتصاد من الانكماش الناجم عن الوباء.
وكان للجنرالات الكبار رأي في السياسة الخارجية والمسائل الأمنية إلى القرارات الاقتصادية. وكان رئيس الأركان وغيره من الجنرالات يلتقون بانتظام مع كبار رجال الأعمال وصناع السياسات.
لكن العلاقة بدأت في التدهور بصورة لا تسمح بترميمها.
هناك أسباب أخرى بعيداً عن الخلاف بشأن ملفات السياسة الخارجية.
منها مثلاً تورط خان في الترقيات العسكرية.
ثم الأهم: معاناة الاقتصاد الباكستاني من مديونية عالية ومعدل تضخم كبير جداً تفاقم بعد الأزمة الأوكرانية.
الجيش صاحب تاريخ طويل من الانقلابات
في معظم الفترة منذ الاستقلال في عام 1947، أدار الجيش الباكستاني البلاد إما بشكل مباشر، تحت حكم مستبدّين عسكريين مباشرين، أو عبر إمساك خيوط اللعبة السياسية من وراء الكواليس.
السياسيون المدنيون، بدورهم، إما أنهم كانوا مؤيدين للجيش أو أطاحت بهم انقلابات المؤسسة العسكرية الصريحة وغير الصريحة.
ويحظى الجيش الباكستاني بأهمية خاصة في البلاد منذ نشأتها، فهو مؤسسة وطنية عابرة للإثنيات في بلد متعدد الهويات واللغات، كما أنه حامي البلاد في مواجهة الهند التي تفوق باكستان نحو خمس مرات سكاناً واقتصاداً.
لكن هذه الصورة الإيجابية التي يعترف بها الباكستانيون لجيش بلادهم يشوهها دوماً تاريخ مستمر من الانقلابات والتدخل في الشأن السياسي.
بدأت الانقلابات العسكرية في باكستان عام 1958 نجحت ثلاث منها فقط منذ عام 1949، إضافة إلى النفوذ السياسي.
ومنذ استقلالها في عام 1947 أمضت باكستان تحت الحكم العسكري نحو نصف هذه المدة.
كان آخر الانقلابات في 1999 على يد قائد الجيش الباكستاني برفيز مشرف الذي أطاح برئيس الوزراء آنذاك نواز شريف وتولى حكم البلاد.
تميزت ولايته باتهاماته المتكررة لرجال الدين وطلابهم في المسجد بشن حملة قوية لتطبيق الشريعة في العاصمة الباكستانية، وبالتالي نفذ ملاحقات ضد بعض المساجد والمراكز الإسلامية.
وتميزت فترة رئاسته أيضاً بمواجهات مع جهاز القضاء بينها محاولة لعزل النائب العام، وبعد مذبحة المسجد دخلت باكستان في أزمة سياسية كبيرة، في وقت وصلت فيه شعبية مشرف إلى الحضيض.
أعلن استقالته عبر خطاب متلفز في صيف 2008، وانتهى به المطاف هارباً من العدالة، يتنقل بحذر بين دبي ولندن، حسبما وصف تقرير لموقع الجزيرة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، قضت محكمة خاصة في إسلام آباد بإعدام برويز مشرف (المقيم بالمنفى)، بعد إدانته بالخيانة العظمى لكونه عطّل الدستور، وفرض حالة الطوارئ في 2007.

* القنبلة الإسلامية الأولى
الصراع مع الهند دفع باكستان إلى امتلاك السلاح النووي وتطوير الجيش بأحدث الأسلحة من مصادر متنوعة
في مارس/آذار 2022 انطلق أحد الصواريخ الهندية عن طريق الخطأ في منطقة الحدود، وسقط في منطقة سكنية داخل باكستان.
لم يسفر الانفجار عن ضحايا، وأصدرت إسلام آباد احتجاجاً قوياً، يطالب بإجراء تحقيق عن ملابسات انطلاق الصاروخ، ويحذر من “عواقب سيئة”.
لكن صاروخ 2022 أعاد للأذهان أكثر 70 عاماً من النزاع بين الجارتين النوويتين، منذ حصولهما على الاستقلال عن الحكم البريطاني عام 1947.
اقترحت بريطانيا لدى انسحابها تقسيم شبه القارة الهندية إلى ثلاث دول:
الأولى هي الهند، وتضم المقاطعات ذات الأغلبية الهندوسية.
الثانية باكستان بالمقاطعات ذات الأغلبية المسلمة في البنجاب والسند والحدود الشمالية الغربية وبلوشستان.
الثالثة تشمل منطقة آسام ذات الأغلبية الهندوسية، والبنغال ذات الأغلبية المسلمة التي أصبحت عام 1971 دولة بنغلاديش.
وتركت بريطانيا لمنطقة كشمير ذات الغالبية المسلمة حرية الاختيار بين الهند وباكستان، فاختار حاكمها آنذاك هاري سينغ الهند.
اختلفت الأطراف الهندية بشأن الخطة البريطانية، ونتج عن ذلك حرب أهلية دموية بين الهندوس والمسلمين، قبل ترسيم الحدود بين الهند وباكستان بإشراف بريطاني.
تتنازع الهند وباكستان السيطرة على كشمير منذ الاستقلال عام 1947، والجارتان المسلحتان نووياً خاضتا اثنتين من حروبهما الثلاث بسببها.
تنشر الهند نصف مليون عسكري على الأقل عند جانبها من الحدود، لمكافحة تمرد أودى بعشرات آلاف الأشخاص منذ 1989.
وتتهم نيودلهي باكستان بدعم المتمردين في كشمير وهو ما تنفيه إسلام آباد.
وتشهد المنطقة توتراً متصاعداً منذ أن ألغت نيودلهي في أغسطس/آب 2019 الحكم شبه الذاتي الذي كانت تتمتع به ووضعتها تحت وصايتها المباشرة.
وفي خطابه الأول بعد انتخابه لمنصب رئيس الوزراء خلفاً لعمران خان، أكد شهباز شريف أن بلاده تريد “علاقة أفضل مع الهند”، لكنه حذّر أيضاً من أنه لن يكون هناك سلام دائم من دون تسوية وضع كشمير.
وقد تدفع الضغوط الاقتصادية غير المسبوقة باكستان لإعادة العلاقات التجارية مع الهند، لكن الحكومة الهندية لا تزال حذرة بعد عقود من عدم الثقة والعداء الراسخين.

* صواريخ نووية جاهزة للانتشار في ميدان القتال
في أبريل/نيسان 2011 أزعجت باكستان العالم كله، وليس فقط جارتها اللدود الهند، بتفجير نووي ناجح.
وصفت رويترز الحدث بأنه “يثير التوتر في منطقة تشهد احتقاناً بالفعل حيث يكرس قتل أسامة بن لادن من زعزعة الاستقرار”.
التجربة كانت لصاروخ تكتيكي صغير يحمل اسم “نصر”، ويصل مداه إلى 60 كيلومتراً والقادر على حمل رؤوس نووية “لتعزيز قوة الردع على المسافات القصيرة”، كما قال البيان الباكستاني.
كيف وصلت باكستان إلى عضوية النادي النووي، وماذا يعني ذلك بالنسبة لها، ولنا في المنطقة العربية؟
خبراء في باكستان يدافعون عن حق امتلاك السلاح النووي، ويعتبرونه مجرد الرد المتوقع على البرنامج النووي في الهند.
يرون أن بلادهم مضطرة لتطوير أسلحة نووية لردع خطة هندية بشن ضربة صاعقة داخل باكستان بدعوى ملاحقة جماعات متشددة تتخذ من باكستان مقراً لها، وتنفذ هجمات في الهند على غرار ما حدث في مومباي 2008.
ونقلت رويترز عن خبراء أن التجربة تعني أن الجيش الباكستاني خطط لنشر هذه الصواريخ في ميدان القتال، ما يفاقم من حدة التنافس النووي في المنطقة، على غرار التنافس الأمريكي-السوفييتي إبان حقبة الحرب الباردة.

* عبد القدير خان البطل القومي النووي
في خريف 2021 رحل الدكتور عبد القدير خان، أبو القنبلة النووية الباكستانية، وشيَّعته الملايين بمظاهرة حب وتقدير، “باعتباره بطلاً قومياً” لتحويله بلاده إلى أول قوة نووية إسلامية في العالم.
ساهم الرجل في إنشاء أول محطة تخصيب نووية باكستانية في كاهوتا بالقرب من إسلام آباد. وبحلول عام 1998، أجرت البلاد تجاربها النووية الأولى، لتصبح سابع قوة نووية في العالم؛ مما أثار الابتهاج الوطني.
وقد أصر الدكتور خان، أثناء عمله، على أن البرنامج ليس له أي غرض عسكري، ولكن اعترف لاحقاً بأنه كان يعرف الهدف النهائي: “لم يكن لدي أي شك في أنني كنت أصنع قنبلة، كان علينا أن نفعل ذلك”.
و”منذ أن أصبحتا دولتين نوويتين، حرصت الهند وباكستان على اختبار مجموعة متنوعة من الصواريخ متنوعة النطاقات، بما في ذلك منظومات نووية وتقليدية ومزدوجة القدرة. ودخلت الدولتان في سباق تسلح”. وأضاف: “هذا السباق الصاروخي زاد الخطر الذي يتهدد المنطقة ككل، ويوضح أنه اشتعال صراع نووي ستكون له آثار مدمرة على جنوب آسيا”، كما يرى عادل سلطان، عميد كلية الفضاء والدراسات الاستراتيجية بالجامعة الجوية في إسلام آباد.
من ناحيتها، تبني باكستان منظومات أسلحة بهدف ردع الهند عن تنفيذ عمليات عسكرية تقليدية، بعيداً عن استخدام الأسلحة النووية. والترسانة الصاروخية الباكستانية ومخزون البلاد من الأسلحة النووية جرى الحصول عليها سراً من الصين.
في المقابل، تطوِّر الهند منظومات عسكرية ترمي بصورة أساسية لتوفير رادع استراتيجي في مواجهة الصين، ما يعني أن دائرة الصراع النووي غير مقتصرة على شبه القارة الهندية.

* باكستان والعالم

 


حليفة قديمة للولايات المتحدة والسعودية والإمارات لكنها تتجه الآن شرقاً صوب الصين

منذ استقلالها كانت باكستان أقرب للمعسكر الغربي في مواجهة المعسكر الشرقي الشيوعي.
تعاملت الولايات المتحدة مع باكستان على أنها دولة تابعة منذ استقلالها في عام 1947.
هندست وكالة المخابرات الاستخبارات المركزية الانقلاب الذي أنهى 11 عاماً من الحكم المدني في عام 1958.
ونصّبت أول ديكتاتور عسكري باكستاني، وهو أيوب خان.

هكذا احتلت إسلام آباد مكانة متميزة في أولويات السياسة الأمريكية الخارجية، تراجعت قليلاً بعد تحول واشنطن من التركيز على مواجهة الإرهاب إلى مواجهة الصين.
أصبحت واشنطن أكثر ميلاً للنظر إلى علاقاتها مع باكستان ضمن إطار أوسع يأخذ في الاعتبار المصالح الأمريكية المتنامية مع الهند.
يظهر هذا التراجع في الانهيار الحاد للمساعدات الخارجية التي تتلقاها إسلام آباد من واشنطن؛ من نحو 4 ونصف مليار دولار في 2010، إلى أقل من 70 مليون دولار في 2020.

الأخطر من ذلك اتجاه واشنطن مؤخراً إلى تفضيل علاقتها مع الهند، حيث أقامت أمريكا التحالف الرباعي كواد QUAD مع كل من الهند واليابان وأستراليا، والذي يرتكز على التعاون في المجالات الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية في سياق الصراع الأمريكي الصيني.
بالمقابل تطورت العلاقات الباكستانية مع الصين.
واصلت باكستان الاقتراض منها بشكل مكثف، وقدمت بكين في السنوات القليلة الأخيرة نحو 11 مليار دولار لباكستان على هيئة قروض تجارية ومبادرات لدعم احتياطيات النقد الأجنبي.
لكنّ هذا لا يعكس نهاية للنفوذ الأمريكي في باكستان، كما لا يعكس عمق العلاقات الباكستانية الأمريكية على مستوى قادة الجيش والاستخبارات.
وكان وقوف الجيش الباكستاني مع الموقف الأمريكي من حرب روسيا على أوكرانيا، وعلى عكس موقف عمران خان، دليلاً دامغاً على قوة العلاقة بين الجنرالات وواشنطن.
من المستبعد أن تكون الأزمة السياسية في باكستان أولوية للرئيس الأمريكي جو بايدن، المنهمك في شأن الحرب الجارية في أوكرانيا، وحربه المزمنة مع الصين.
كما أن استمرار سيطرة الجيش الباكستاني على السياسات الخارجية والأمنية من وراء الكواليس جعل تغيير الحكومة أمراً لا يستدعي مخاوف كبيرة.

* علاقات مستقرة مع العالم العربي والإسلامي
تدرك الكثير من العواصم الخليجية والشرق أوسطية أهمية دور إسلام آباد في الهيكل الأمني للمنطقة. وتمتد تأثيرات المواقف الباكستانية إلى الجزيرة العربية ومناطق أخرى في آسيا.
باكستان هي شريك أساسي لدول الخليج، وخاصة السعودية، وهناك جالية باكستانية ضخمة في هاتين الدولتين وغيرهما من دول الخليج؛ “لذا تهتم الرياض وأبوظبي بالتغيير السياسي الذي يطرأ عليها”، كما يقول البروفيسور كامران بخاري، كبير محاضري معهد السياسات والأمن بجامعة أوتاوا الكندية.
حسّنت حكومة خان العلاقات مع الكويت؛ حيث أكدت الكويت أنها رفعت حظر التأشيرات لمدة عشر سنوات عن المواطنين الباكستانيين.
وعززت حكومة خان العلاقات الاقتصادية مع قطر، والتي من المتوقع أن تفيد باكستان بمقدار 3 مليارات دولار أمريكي على مدار 10 سنوات من خلال صفقة لإمدادات الطاقة.
وكان خان يتوسط بين إيران والسعودية في محاولة لإنهاء الحرب في اليمن، والتي هي جزء من صراع إيران والسعودية بالوكالة.
ومنذ صعوده للسلطة في 2018، ظهر خان كشريك للرئيس التركي أردوغان في السعي لبناء كتلة إسلامية أكثر استقلالاً، وهو ما وتّر علاقاته ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن أيضاً مع السعودية والإمارات.
وعلاقة باكستان مع السعودية والإمارات كانت دائماً في أعلى جدول الأولويات في إسلام آباد، كما تشرح السطور التالية.
السعودية: كثير من المصالح المشتركة وقليل من الخلافات

هناك عبارة شهيرة للأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات العامة السعودية، وصف فيها العلاقات بين السعودية وباكستان بأنها “ربما تكون من أوثق العلاقات في العالم بين بلدين من دون أية معاهدة رسمية”.
كانت باكستان، منذ تأسيسها عام 1947، حليفاً استراتيجياً للسعودية التي موّلت برنامجها النووي، لكنّ هذه العلاقات شهدت، في العقود الأخيرة، فتوراً بعد رفض البرلمان الباكستاني المشاركة في “عاصفة الحزم” في اليمن عام 2015.
الجيش الباكستاني يكرر رغم ذلك التزامه بأمن السعودية، لكنّ عمران خان أخذ يبتعد عن الرياض وأبوظبي بمقدار اقتراب هاتين من الهند.
كلا البلدين يبني علاقات أمنية مترابطة لا تتعارض مع علاقات أي منهما مع دول أخرى.
السعودية تعمل على تعزيز الروابط الاستراتيجية مع الهند من دون المخاطرة بعلاقاتها مع باكستان.
وباكستان رغم التقارب الأخير مع إيران تدعم المصالح السعودية في تصديها للتدخل الإيراني في أمنها الوطني وفي أمن الخليج.
وفي المقابل، ساندت المملكة باكستان داخل منظمة التعاون الإسلامي في نزاعها مع الهند حول منطقة كشمير.
وبعد توليه الحكم سعى خان إلى إعادة ضبط العلاقات مع دول الخليج.
زار السعودية، واستقبله محمد بن سلمان شخصياً في المطار، وانسجم الرجلان على الفور؛ فأطلقت السعودية سراح آلاف السجناء الباكستانيين بسبب مخالفات تتعلق بالإقامة وجُنح صغيرة، وأعلنت عن مشروعات استثمارية بمليارات الدولارات في باكستان.
واستجابت باكستان أيضاً لمطالب السعودية باتخاذ موقف أكثر صرامة من إيران حول محاولاتها تجنيد شباب من الشيعة في باكستان وأفغانستان للقتال مع الحوثيين في اليمن.
لكن التوجهات الإسلامية لرئيس الوزراء السابق دفعته باتجاه أن يكون متحدثاً باسم العالم الإسلامي. وظهر ذلك خلال استضافة باكستان الأخير لاجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي.
وقُرعت أجراس الإنذار في الرياض، كما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye.
فقد بدا أن “مكانة عمران خان بصفته رجل دولة شاملاً، وهو الذي يثير قضايا مثل الإسلاموفوبيا وكشمير وفلسطين بصوت عالٍ حول العالم، طغت على زعامة محمد بن سلمان للعالم الإسلامي، ونظر بن سلمان إلى ذلك على أنه تهديد”، كما نقل التقرير عن سامي حمدي، رئيس قسم المخاطر السياسية في مركز “إنترناشونال إنترست”.
“وبينما يقود محمد بن سلمان زمام السعودية إلى عملية نزع الأسلمة عنها بتنظيم الحفلات في الصحراء، وفتح شواطئ البكيني، وقصر استعمال مكبِّرات الصوت الخارجية في المساجد والجوامع على رفع الأذان والإقامة فقط، كان خطاب خان المؤيد للإسلام يكتسب شعبية سريعة في الخليج والشرق الأوسط”، كما أضاف حمدي.
رغم ذلك يلبي الطرفان نداء المصالح المشتركة.
قبل أسابيع من سحب الثقة من حكومة عمران خان، قال موقع Middle East Eye البريطاني إن باكستان أرسلت أكبر رجال مخابراتها إلى إيران؛ حيث طالبت من خلالها طهران بالتوقف عن دعم الجماعات التي تعمل بالوكالة في المنطقة، “وإلا واجهوا العواقب”.
كانت الرسالة مفادها أنه إذا لم تتوقف إيران عن توفير قاعدة للانفصاليين في بلوشستان وتمويل وكلاء آخرين في المنطقة، فيمكن لإسلام آباد الرد بالمثل.
على الصعيد الدبلوماسي أعلنت باكستان الحوثيين منظمة إرهابية، وأدانت هجماتهم بالصواريخ والطائرات بدون طيار إدانة مباشرة.

*الإمارات: استثمارات ضخمة وشبكة مصرفية قوية

الإمارات العربية المتحدة، التي كانت ثالث أكبر شريك تجاري لباكستان في عام 2020، تمتلك شبكة مصرفية قوية في إسلام آباد.
ولا يزال رجل الأعمال الإماراتي الراحل سعيد أحمد اللوتاه، الذي كان أحد أقرب المقربين من الأمير محمد بن راشد آل مكتوم، يمتلك حصة نسبتها 6.54% في بنك دبي الإسلامي، الذي أسّسه عام 1975، ويُعتبر أول بنك إسلامي حول العالم.
وتعتبر مجموعة أبوظبي أكبر مستثمر إماراتي في باكستان، بإجمالي استثمارات تقدر بنحو 3 مليارات دولار.
هذه الشركة القابضة مملوكة لوزير التسامح والتعايش الإماراتي نهيان بن مبارك آل نهيان، بالشراكة مع سرور بن محمد آل نهيان، وحمدان بن زايد آل نهيان، الذين يجرون معاً رحلات منتظمة إلى باكستان لإقامة حفلات الصيد.
الفرع المحلي التابع لبنك دبي الإسلامي هو البنك المفضل من بين مجموعات القطاع العام لدبي العاملة في باكستان، من بينها موانئ دبي العالمية، التي لديها حصة 75% في ميناء القصيم في كراتشي، وشركة دناتا للسفريات، التي تدير خدمات أرضية في سبعة مطارات باكستانية من خلال شركة تابعة محلية.
الصين: صديق قديم يقترب من موقع الحليف

في العقدين الماضيين اتجهت القوات المسلحة الباكستانية بدرجة كبيرة نحو الصين للحصول على المعدات العسكرية.
شراء السلاح من الصين بدأ منذ عهد طويل؛ لكن العلاقة تعمقت في السنوات الأخيرة، في ظل شراء باكستان بعضاً من المعدات العسكرية الصينية الأعلى تطوراً.
يزعم الكثير من التقارير أن الصين أمدت باكستان بمساعدة كبيرة في برنامج السلاح النووي، إضافة إلى “تجسس” العالم الباكستاني عبد القدير خان.
كما قدمت الصين لباكستان مكونات الصواريخ، وتصميمات الرؤوس الحربية؛ بل وقدمت إليها كذلك اليورانيوم عالي التخصيب.
وباعت لها الكثير من أنظمة الصواريخ والدبابات، بالإضافة إلى الطائرة JF-17 Thunder، المقاتلة الرئيسية لدى الجيش الباكستاني، التي حلت محل مقاتلات إف-16 سي الأمريكية.

*الاقتصاد الباكستاني يسقط في”فخ الديون”

كان العامل الاقتصادي حاسماً في أزمة سحب الثقة من رئيس الوزراء عمران خان، بعد اتهامات له بسوء إدارة الاقتصاد منذ 2018.
تعاني باكستان من أوضاع اقتصادية معقدة ومزمنة لا يتحمل خان مسؤوليتها وحده، لكن تفاقم الضغوط الاقتصادية مؤخراً أفقد الروبية الباكستانية 30% من قيمتها منذ عام 2018، وبلغت معدلات التضخم في ربيع 2022 نحو 13%.

كما فقدت إسلام آباد جزءاً كبيراً من احتياطيات النقد الأجنبي بعد ارتفاع أسعار النفط والشحن جراء الحرب في أوكرانيا.
وتتهم المعارضة رئيسَ الوزراء السابق بالتسبب في القضاء على احتياطيات النقد الأجنبي، وتهديد باكستان بفقدان القدرة على سداد ديونها، نتيجة سياسته مع صندوق النقد التي تصفها بـ”النهج المتخبط”، بالإضافة إلى تعيينه أربعة وزراء مالية منذ وصوله للسلطة.
لكن قبل الأزمة السياسية التي كان عمران خان بطلها، شهدت البلاد أزمة اقتصادية حادة، جعلت معدل التضخم في البلاد هو الأعلى في آسيا.
ولامس التضخم في باكستان أعلى مستوى له بنهايات 2021، بعد الارتفاع العالمي في أسعار النفط وتكلفة الشحن.
الأهم من ذلك أن باكستان تستورد الكثير من المواد الغذائية الأساسية مثل البقول والقمح وزيت الطعام والسكر.
واردات باكستان الغذائية تشكل حوالي 16% من إجمالي وارداتها.
ولقد أدت الحلقة المفرغة المتمثلة في البحث عن قروض جديدة وسداد القروض القديمة بباكستان إلى “فخ الديون” سيئ السمعة.
وبسبب إحجام المجتمع الدولي عن تقديم قروض لباكستان، اضطرت الدولة إلى اللجوء بشكل أساسي إلى الصين والمملكة العربية السعودية؛ مما جعلها عُرضة لشروط قد تكون معقدة.

*من يُعيد تشكيل النخبة السياسية ويرسّخ حياد الجيش؟

لم تتجاوز باكستان عنق الزجاجة بعد.
ها هي الخلافات الكبيرة مستمرة بين أحزاب البرلمان، وتبقى الانتخابات المبكرة احتمالاً وارداً.
ومن المرجح أن حالة عدم الاستقرار السياسي ستدفع بمزيد من الضرر بالاقتصاد، وربما إلى اضطرابات اجتماعية واحتجاجات.
كما أن احتمالات تدخل الجيش الباكستاني لتولي زمام الأمور صراحة لن تكون مستبعدة.
الأحزاب السياسية الباكستانية هي نتيجة تحالفات مع المؤسسات العسكرية، وهي تمثل طبقات اجتماعية واقتصادية أكثر منها تعبر عن أيديولوجيا متماسكة.
وتتداخل الأحزاب مع جماعات المصالح في شبكات واسعة ومعقدة.
إحدى مشكلات البلاد التاريخية ضعف الإرادة السياسية لكسر قبضة جماعات المصالح القوية. ويشير تقرير حديث للأمم المتحدة إلى أن مجموعة النخبة من المواطنين في باكستان يتلقون امتيازات اقتصادية تبلغ حوالي 17.4 مليار دولار في شكل إعفاءات ضريبية وإمكانية الوصول التفضيلي إلى رأس المال العام.

الطبقة الحاكمة في باكستان، إما عسكريون يرون أنهم الأقدر على حكم البلاد حتى من وراء ستار.
أو مدنيون أثرياء نشأ نفوذهم بفضل علاقتهم بالعسكريين.
ولكن باكستان تحتاج قبل إعادة إصلاح سياستها الاقتصادية إلى إعادة تشكيل نخبتها السياسية وترسيخ حياد الجيش وخضوعه للسلطة المنتخبة، وألا يحاول السياسيون المنتخبون استخدام الجيش ضد بعضهم بعضاً.
كما تحتاج البلاد إلى تقوية دولة القانون ومحاربة ثقافة الإفلات من العقاب على كل المستويات، وتحتاج إلى تأكيد حقوق الأقليات والمرأة بإنهاء ربط بعض المحافظين والمتشددين بعض الممارسات المرفوضة بالإسلام.
وتحتاج إسلام آباد إلى وقف السياسات الشعوبية الاقتصادية التي تؤدي إلى إرضاء الناخبين مؤقتاً ولكنها تفسد الاقتصاد لعقود قادمة.

* المصدر: المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولا تعبر عن راي الموقع