اليمن والوعي القرآني في مواجهة المشاريع الخارجية
محمد محسن الجوهري*
منذ بدايات القرن العشرين، لعبت الحركة الصهيونية دورًا محوريًا في إعادة تشكيل موازين القوى الفكرية والسياسية في المنطقة، وسعت عبر أدوات مالية وإعلامية إلى إضعاف الروابط الدينية والاجتماعية بين الشعوب العربية والإسلامية. ولم يكن هدفها السيطرة العسكرية فقط، بل صناعة وعيٍ مضاد يروّج للتجزئة والانقسام ويُضعف فكرة الأمة الواحدة.
هذا المشروع، الذي تجسّد لاحقًا في قيام الكيان الإسرائيلي، لم يعتمد على القوة المسلحة وحدها، بل استند إلى منظومات ثقافية واقتصادية تنفذ إلى عمق المجتمعات العربية، مستغلًا حالة الضعف والتبعية التي خلّفتها الأنظمة العميلة. فقد جرى دعم تيارات فكرية متشددة أو مفرّطة على السواء، لتبقى المجتمعات منشغلة بصراعاتها الداخلية بعيدًا عن مواجهة العدو الحقيقي.
وفي اليمن كما في غيرها، يمكن تتبّع أثر هذه السياسات غير المباشرة عبر التاريخ؛ فاليهود اليمنيون، الذين كانت لهم مكانة اجتماعية وثقافية في فترات معينة، شكّل بعضهم جسور تواصل مع الحركة الصهيونية منذ أربعينيات القرن الماضي، وأسهمت موجات الهجرة الجماعية إلى فلسطين المحتلة في تغذية المشروع الصهيوني بشريًا وثقافيًا. أما بعد رحيلهم، فقد استمر الأثر عبر وكلاء سياسيين وإعلاميين يروّجون لنفس الأفكار التي تستهدف إضعاف الهوية الجامعة وإشغال المجتمع بصراعات داخلية لا تنتهي.
كما ظل اليهود عبر التاريخ يعملون على تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية، سواء من خلال أدوات مباشرة أو عبر وكلاء محليين أدّوا الدور نيابةً عنهم. فنظام عفاش الذي حكم البلاد لعقود مارس الإفساد بكل أشكاله، حتى غدت الدولة نفسها تُحارب اقتصادها الوطني، وتُجهض الزراعة والصناعات المحلية، وتُبقي الشعب في حاجة دائمة للغرب ومؤسساته.
أما في الجانب الديني، فقد تولّى حزب الإصلاح والجماعات الوهابية مهمة الإفساد الفكري، فحرّفوا المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وأشعلوا الصراع المذهبي بين أبناء الوطن الواحد خدمةً لأجندات خارجية. هؤلاء شكّلوا الامتداد الأخطر للمشروع الصهيوني في الميدان العقائدي من حيث لا يشعرون، إذ نقلوا معركة الوعي من مواجهة العدو الحقيقي إلى صراعات داخلية استنزفت طاقات الأمة وشتّتت بوصلتها.
ومع مرور الوقت، ساهم هذا الخطاب في تحييد الوعي الشعبي، فصار كثيرون يرون في قضايا الأمة عبئًا لا واجبًا، وفي الجهاد دفاعًا عن الكرامة "تطرفًا" لا فضيلة. وهكذا نجح المشروع الصهيوني، عبر هؤلاء، في ضرب البنية الفكرية للإسلام المقاوم، وتحويل بعض الحركات الدينية إلى أدوات تُعيد إنتاج التبعية وتُطفئ جذوة الرفض، بدل أن تكون منارات للحرية والاستقلال.
وهكذا، يتكامل الإفسادان الديني والاقتصادي في خدمة مشروع واحد، هدفه فصل الإنسان اليمني عن وعيه بذاته وقدرته على التحرر. فحين يُدمَّر الاقتصاد الوطني وتُزرع ثقافة الاتكال، يُصبح من السهل ترويض الشعب عبر خطاب ديني مزيّف يُقنعها بأن الفقر قدرٌ، وأن مقاومة الطغيان خروجٌ عن الطاعة. وقد أدّت هذه المعادلة الخبيثة إلى تهميش القيم القرآنية التي تدعو إلى العزة والكرامة والاعتماد على الذات، لتُستبدل بثقافة الخضوع والانبهار بالغرب.
لكن المشروع القرآني جاء ليكسر هذه الدائرة المغلقة، فكان نقيضًا موضوعيًا لكل أشكال التدجين والإفساد. إذ أعاد الاعتبار للإنسان كفاعلٍ في التاريخ، وربط بين الإيمان والكرامة، وبين العبادة والجهاد في سبيل الله. ومن خلال شعاراته المبدئية ـ "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام" ـ فضح طبيعة الصراع الحقيقية، وكشف ارتباط الأنظمة العميلة والجماعات الوهابية بالمشروع الصهيوني الذي يسعى لإبقاء الأمة في غيبوبة دائمة. ومن هنا تحوّل الوعي القرآني إلى جدارٍ مقاوم، يفضح كل مظاهر الإفساد التي تراكمت لعقود، ويعيد رسم ملامح أمةٍ تعرف عدوّها وتستعيد مكانتها بين الأمم.
* المقال يعبر عن رأى الكاتب

