حماد صبح*

لا تخلو دولة عربية من مظهر ما لاحتلال عسكري أجنبي سواء اتخذ هذا الاحتلال صورة قواعد متفق عليها بين دولة عربية ودولة أجنبية أو أكثر مثلما هي حالة الدول الخليجية ، أو اتخذ صورة وجود عسكري أجنبي دون إرادة الدولة العربية مثلما هي حالة سوريا حيث تتواجد على أراضيها قوات تركية وأميركية وفرنسية ، وفي شمال العراق حيث تتواجد قوات تركية ، وفي شرق ليبيا الذي تتواجد فيه أكثر من قوة أجنبية.

القواعد العسكرية المتفق عليها بين الدولة العربية والدولة الأجنبية هي احتلال بمواصفات مظهرها الصداقة ، ولكنها في جوهرها نوع من الاحتلال الذي يحد من سيادة وحرية الدولة العربية، وهي، القواعد، في أقل مساوئها علامة على ضعف هذه الدولة وحاجتها الكبيرة إلى الحماية الأجنبية، والحامي القوي لا ريب في تدخله في سياسة المحمي الضعيف . ولا فت وله دلالته أن يشتكي الألمان من أن السفير الأميركي في بلادهم يتصرف كأنه ضابط في قوة احتلال مع أن القواعد الأميركية الحالية في ألمانيا جزء من قوات حلف الأطلسي. صور الاحتلال العسكري الأجنبي في الدول العربية توضح حقيقة مرة قاسية هي أن الشعوب العربية لم تنشىء دولا حقيقية وإنما أشكال دول ، والسبب الأول أن هذه الشعوب في جملتها لم تنشىء مجتمعات قوية تصنع دولا قوية ، والمسلم به أن العلاقة بين المجتمع والدولة علاقة جدلية تبادلية وظيفيا ؛ المجتمع القوي يصنع دولة قوية ، والدولة القوية تواصل المحافظة على قوة المجتمع وتطويرها.

والسبب الثاني أن كثيرا من المجتمعات العربية بحكم قلة سكانها ليست بقادرة على صنع دولة قوية عسكريا ، ولم يكفِ المال لصنع هذه الدولة لكونه أحد مقومات صنعها وليس كلها ، فما القوة العسكرية التي يمكن أن تصنعها قطر أو الإمارات التي لا يزيد عدد مواطني أي منهما عن مليون نسمة، وقطر أقل من مليون بكثير؟! وفي دولة خليجية غنية مثل بلاد الحرمين ، يزيد عدد مواطنيها عن عشرين مليون نفس، يحول نظامها السياسي دون صنع هذه القوة العسكرية خوفا من أن تكون عنصر تغيير سياسي في البلاد يفضي إلى تطوير النظام مثلا إلى ملكية دستورية أو حتى جمهورية، وغياب هذه القوة يسوغ به النظام السعودي أمام شعبه حاجة البلاد للحماية الأميركية التي هي في الصحيح حاجته هو لا حاجة البلاد القادرة بفاعلية ثروتها الكبيرة وعدد مواطنيها الكبير نسبيا على بناء قوة عسكرية قوية ومستقلة، وهو الآن، النظام، يتجه للتطبيع مع إسرائيل طمعا في هذه الحماية. ودولة مثل مصر يزيد سكانها على 100 مليون هي أٌقدر دولة عربية بتأثير هذا العدد على صنع قوة عسكرية كبرى إلا أن إمكاناتها المالية محدودة، فماذا تفيد ميزانية من 4 مليارات دولار هي ميزانية الجيش المصري ؟!

وقلل الضعف العسكري المصري من فاعلية مصر في المنطقة ، وأنقص سيادتها في سيناء ، وضاعفت نوعية قيادتها السياسية الحالية المتدنية من تردي فاعليتها بقضاء هذه القيادة على كل تجليات قوتها الناعمة التي كان لها تأثير عميق عربيا وإسلاميا. وله دلالته الكبرى أن القوى الفاعلة الثلاث في المنطقة الآن هي تركيا وإسرائيل وإيران . وحدة العرب السياسية هي القادرة على صنع قوة عسكرية كبرى وتحرير بلادهم من كل صور الاحتلال الأجنبي الحالية. وهذه الوحدة لا تتوفر لها أي إرادة سياسية بين الأنظمة العربية ، وهي محظورة ممنوعة من الغرب الأوروبي والأميركي ومن إسرائيل، وهذه استراتيجية مرسومة محسومة للقوى الثلاث . وحين كان عدد العرب 300 مليون نفس قال دبلوماسي بريطاني لدبلوماسي عربي: “لن نترك 300 مليون عربي يتحدون، أنتم مجانين؟!.

المفارقة الساخرة سخرية سوداء أن دولة فيها قواعد أميركية وبريطانية وفرنسية وما لا نعلم من القواعد الأجنبية الأخرى ، هي الإمارات، تتحرك عسكريا على نطاق المنطقة ، وتقيم قواعد عسكرية في شرقي ليبيا ، وفي جنوبي اليمن كأنها دولة كبرى ، وهو دور رسمه لها من توجد قواعدهم في أراضيها . وأكبر وأوضح علامات عجز العرب عن تحقيق أي نوع من الوحدة السياسية أن دول الجزيرة العربية السبع لم تحقق هذه الوحدة مع ما بينها من مشابهات اجتماعية وثقافية واتصال نسب بين قبائلها العابرة لحدودها السياسية ، ونشهد الآن صراعاتها وعداواتها ، وذات الشيء يقال عن دول المغرب العربي الخمس.

والضعيف دائما يفقد سيادته، ويفتح باب الأطماع الخارجية لتصنع صورا متنوعة من الاحتلال مختلفة في مظهرها مؤتلفة في جوهرها. وما قام به ماكرون بعد انفجار بيروت يشهد على أنه مع دولته ينظر إلى لبنان بعين الانتداب الفرنسي، بل نظرته إلى مقاطعة فرنسية، زار لبنان ثاني يوم الانفجار، وتحدث عن وضع نظام سياسي جديد له، وعاد وزاره ثانية، ووعد بزيارة ثالثة ، وزار العراق مدعيا أنه يستهدف مساعدته في استعادة سيادته، وبالتأكيد هو يقصد الحد من النفوذ الإيراني فيه لا النفوذ الغربي؛ لأنه ضد أي سيادة وطنية في أي دولة عربية، ولا سيادة لمن هو تحت الاحتلال في أي صورة من صوره، وكل الدول العربية محتلة بصورة أو بأخرى.

* المصدر : رأي اليوم
* المقال تم نقله حرفيا من المصدر ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع