ما بين الميدان والاستوديو... كيف يخدم الإعلام القطري السردية الصهيونية
محمد محسن الجوهري*
تعتمد بعض الشبكات الإعلامية الكبرى على سياسة تشتيته تتجلى في إبراز مظلومية الشعوب من جهة، وفي الوقت نفسه تشويه صورة كل من يُناصرها من جهة أخرى، بما يضمن بقاء المظلومية بلا سند فعلي. فقد لجأ الإنجليز إلى هذه الأساليب تاريخيًا، ولا تزال بعض الشبكات الغربية مثل BBC البريطانية تمارسها بشكل واضح في تغطياتها السياسية.
وعلى نفس النسق، تعمل قناة الجزيرة في تغطيتها للأحداث، وخاصة في قطاع غزة، حيث تُسلّط الضوء يوميًا على المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق الأطفال والنساء، وهو جهد إعلامي هائل يستحق الثناء لمراسلي القناة على الأرض، وساعد في رفع مستوى الوعي العالمي بالكارثة الإنسانية في القطاع، إذ وثّقت القناة المجازر اليومية التي غالبًا ما تغيب عن وسائل الإعلام الغربية.
ومع ذلك، تظهر في الاستوديوهات بقطر سياسات تحليلية تعمل أحيانًا على تشويه صورة التحركات التي تساند غزة من خارج فلسطين المحتلة، حتى تصبح مسألة الدعم الإقليمي غامضة ومرتبطة دومًا بأجندات دولية مثل إيران. ومن المعروف أن البرامج التحليلية في الجزيرة غالبًا ما تركز على صلة التنظيمات الحرة في العالم العربي بالدول الإقليمية، بدل التركيز على الحق الفلسطيني في الدفاع عن أرضه .
والمراد لذلك أن تبقى غزة وحيدة في معركتها مع الكيان الصهيوني، وكل طرف يتحرك لنصرتها فهو متهم بالتبعية لأجندات مشبوهة، ولهذا السبب أعرضت تنظيمات مختلفة عن قضية فلسطين خوفاً من اتهامها بالتبعية لإيران، وهذه الرؤية هي نفسها التي يروج لها الكيان الصهيوني نفسه بأن القضية الفلسطينية مجرد أزمة صنعتها طهران لخدمة أجندات ومصالح خاصة بها.
والمراد من هذه السياسة الإعلامية أن تبقى غزة وحيدة في معركتها مع الكيان الصهيوني، محاصَرةً وأيضًا بالعزل السياسي والإعلامي. فكل طرفٍ يتحرك لنصرتها يُوصم فورًا بالتبعية لأجندات مشبوهة، سواء كانت إيرانية أو غيرها، حتى يبدو وكأن دعم المقاومة جريمة تستوجب التبرؤ منها. وقد ترسخت إلى حدٍ كبير هذه الصورة، إذ أصبحت إيران عنوانًا لأي تحرك مقاوم، بينما تُستبعد الدوافع الأخلاقية أو القومية من النقاش، وهكذا، تتحول مأساة غزة من قضية تحرر إلى موضوع "نزاع إقليمي"، مما يُفرغها من بعدها الحقيقي ويُبقيها رهينة التأويلات السياسية بدلًا من الضمير الإنساني الحر.
هذا الخطاب أدّى إلى تجميد مواقف العديد من التنظيمات العربية والإسلامية، التي باتت تتجنب حتى التعبير الرمزي عن التضامن مع فلسطين خشية الاتهام بالتبعية لطهران. وهو بالضبط ما أراده الكيان الصهيوني منذ عقود: نزع البعد العربي والإسلامي عن القضية، وتحويلها إلى ملفٍ إقليمي ضيق، وهو ما تجاهر به تل أبيب ودعايتها الإعلامية التي تروّج منذ سنوات لفكرة أن القضية الفلسطينية "أزمة مصطنعة" تستخدمها إيران وحلفاؤها لأهدافهم الخاصة، وهي الرؤية ذاتها التي تجد صداها في أغلب التغطيات العربية التي تردد تلك السردية بشكلٍ مموّه.
سياسة الجزيرة الإعلامية تتضح أكثر من خلال تغطيتها لدور المقاومة في لبنان والعراق، فالتحركات هناك صاحبها تحليل إعلامي يخدم الفكرة الصهيونية بشأن عزل غزة وفلسطين، واُتهم حزب الله ومجاهدي العراق بخدمة المشروع الإيراني في كل مرة يتحركون لنصرة القضية الفلسطينية، وقد نجحت الجزيرة ومعها الإعلام الخليجي المتصهين في عزل المجاهدين هناك ووسمهم بالعمل خارج الإطار الوطني في بلدانهم.
وفي اليمن، تكررت نفس السياسات، خاصة منذ العام 2011 و2017، إذ ساهمت القناة في إذكاء الفتنة بين مختلف المكونات الاجتماعية والمناطقية، مثل التوترات بين الزيود والشوافع، وبين الشمال والجنوب، وبين المحافظات الشمالية نفسها. وقد رافق ذلك إنتاج وثائقيات وبرامج تحليلية، أسهمت في تشويه صورة الوحدة الوطنية وتشتيت الانتباه عن المواجهة الحقيقية ضد العدوان الخارجي.
من هنا، يصبح التعامل مع محتوى الجزيرة التحليلي بحاجةٍ إلى قدرٍ عالٍ من الحذر والوعي النقدي، فهي ـ وإن بدت في ظاهرها منبرًا حرًّا لصوت الشعوب ـ كثيرًا ما تُقدّم تحليلاتها في قالبٍ يُمهد لصراعات داخلية، تُبعد الأمة عن معركتها المركزية مع العدو الصهيوني. ولذلك، فإن كثيرًا من البرامج التحليلية ـ خاصة تلك التي تُناقش قضايا وسورية، واليمن، والعراق ـ تنتهي إلى نتائج تُكرّس الانقسام بدل أن تسعى إلى الوعي الجمعي بأهمية القضية الفلسطينية.
* المقال يعبر عن رأى الكاتب

