علي الزعتري

أجيالٌ من العرب تعلموا و عاشوا في الولايات المتحدة. عاد منهم الكثير و بقي الكثير هناك. في حياتهم الدراسية و العملية علاقاتٌ لا تعد و لا تحصى قامت بينهم و بين الأمريكيين. صداقات و معارف و زواج و إندماجٌ لا يعرف العيب و تحفظٌ لا يريد الغير. وخيبة أمل بل و غضبٌ و عداوة.

من مثلنا ممن قضى سنوات من العمر في أمريكا و حافظ على زمالةٍ و مشاعرٍ فيها الكثير من الشوق لتلك الأيام و لهؤلاء الزملاء، تغشاه و تحيره حالةٌ الأمل و الخيبة بأمريكا و منها. كأن صديقاً حميماً يغدر بك و تتعلق به أكثر. لطالما سألتُ نفسي لماذا مع كل هذه الطيبة و الصداقة و العفوية و الخلق الرفيع مما عشنا و رأينا بأمريكا، لماذا هذا العداء المؤسسي الأمريكي لنا؟ لماذا لا ترى أمريكا و هي عنوان و منارة الحرية و القانون و النظام و العدل كما تقول و كما في كثيرٍ منها لهو قولٌ صادق، أننا نفقد هذه الميزات الإنسانية في بلادنا المحتلة و هي تساند الإحتلال و الحاكم الظالم؟ لماذا ترضى أمريكا ما ترفضه لذاتها و تقبله علينا؟

التبرير الفوري هو إسرائيل و سيطرتها على السياسة الأمريكية بما تحمل إسرائيل من عداء للعرب و رغبةً في تعبيدهم لقبولها رضىً أم غصباً.

الثاني هو المصالح المعقدة في النفط والغاز. و الثالث هو الخوف و الرفض لدين الإسلام مع إغماض العين الأمريكية أن المسيحيين العرب يعانون مثلهم مثل المسلمين. شعبٌ ذكيٌ ودود يستلهم مبادئ تعامله اليومي من الحرية والمساواة وسيادة القانون و حُرمة الكرامة البشرية كيف يمكنه قبول سياسة حكوماته المتعاقبة التي تُرينا كوارث إنسانية متتالية؟

إن عدنا للتاريخ فهناك ما يدفعنا للقول أنها قد تكون فعلاً عنصرية الأبيض الذي كاد أن يُفني سكان القارة الأصلاء و نجح في تحويلهم أُسارى داخل محميات مخصصة لألعاب القمار و بيع التبغ. كما أستعبد الأفارقة و لا تزال فئةٌ ممتدةٌ منه ترفضهم. الأبيض في ذلك الزمان كان يرى تفوقه في هيئته و من ثم في واجب دينه و فورة علمه مبررات أنه أعلى مرتبةً و شأناً من هؤلاء الذين وصفهم بالدونية و بالهمجية و التوحش و لم يجد من ذنب في فرض سيطرته عليهم و دفعهم للهوامش.

لا يزال هذا النمط من التفكير يسيطر على بعض الأمريكي الفرد و السياسي و انظروا ما قاله ترمپ عن إلهان عمر حين أعتبرها خارجيةً عن بلاده، و هي عضو مجلس نواب وانظروا لميليشيات عنصرية تجوب بعض الولايات. و في سنوات الحرب العالمية الثانية وضعت أمريكا آلاف اليابانيين الأمريكان بمعسكرات حجر.

لم تفعل ذلك مع الألمان و الإيطاليين. هل هناك عرقٌ دساسٌ أبيض في هذا؟  ثم بمرور الأيام تصالحت تلك الأنفس على خلفية المصالح و القواعد التي أرستها أطراف الحرب وأعاد الأمريكي اعتباره لكثيرٍ من الشعوب و قَبِلَهم في بلاده وغادر قوانين التفرقة بين الأجناس التي أساءت لأفريقيه.  كثيرٌ من هذه الإيجابيات تخترقها اليوم سلبيات عنصرية متجددة و خطابٌ شعبويٌ يقاومه الأمريكيون بالقانون و بالاحتجاج و صناديق الإقتراع.

لكن لم يكن للعرب نصيب واضحٌ هنا من السياسة الأمريكية الخارجية التي مارستها مع ألد أعداءها و الذين صاروا حلفاءها الخُلَّص.  بل بالعكس تم عَدُّنا ميراثاً استلمته أمريكا من بريطانيا و فرنسا و عاملتنا صاغرين لها رغم الإستقلال الذي حذناه. و تم تطوير الإستخدام الفعال لأساليب السيطرة بالحنو و بناء مجتمعات الإستهلاك و الرفاهية و بالعصا و العداء لمن يخرج من العرب عن طاعتها في ما يخص الدين و النفط و إسرائيل حتى يعودوا صاغرين. هذا للأسف ملخص علاقات أمريكا معنا و من ينكر ذلك فليتفضل بالتوضيح.

مع معارفي الأمريكان لمستُ نشوةً يحملونها لجذورهم الأوروبية وأنهم بلا نعراتِ تمييز على الأقل في الظاهر ضد مواطن من أصلٍ إفريقي أو أسيوي أو لاتيني. لا يوجد ما يبعث القلق لديهم على المستوى الشخصي و لا العام القومي الأمريكي ليشكل لهم فوبيا من هذه الأعراق. يرونهم بأريحيةٍ واضحة كمكونات من المجتمع الأمريكي.

غير أن الأمر يختلف مع العرب و المسلمين. معنا هناك فضولٌ قلقٌ و توجس ليس على المستوى الفردي الشخصي في العلاقات و لكن في النطاق الأعم الذي يمس منطقةَ و منطق العرب والمسلمين كأمم و شعوب. فما هو الذي يخلق هذا التوجس و يغذيه؟

أؤمن أن ثلاثية الدين و النفط و إسرائيل التاريخية هي جوهر الخلاف و التأليب. الدين كان و يستمر عنوان خلاف ثيولوجي واضح. و أمريكا تريدُ عرباً مسلمين و مسيحيين متحررين من أي قواعد في دينهم قد تُخالف سياسة أمريكا و إسرائيل. تريدهم منتجاً لفتاوي الجنوح للسلام.

و تريد هيمنةً مطلقة على النفط و الإقتصاد و هيمنةً مطلقةً لإسرائيل على المنطقة. هذه الزوايا الركنية الأساسية تفسر السياسة الأمريكية في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. لكن بعض العرب مسلمين و مسيحيين ناهضوا و لا يزالون هذه السياسة الأمريكية بأشكالٍ من الرفض وهو ما لا ترضاه واشنطن.

هذه الثلاثية قد تفسر سياسة الحكومة الأمريكية غير أنها لا تفسر قلة أو عدم وجود إحتجاج أمريكي مجتمعي شامل و يقود للتغيير لهذه السياسة كما فعلت أثناء الحرب الأمريكية في ڤييتنام مثلاً. شاهدنا إحتجاجاتٍ ضد حروب العراق لكنها خمدت و تراجعت مع الوقت و شاهدنا فورات إحتجاج لصالح فلسطين ما تلبث أن تذوب. لا وجود لإستدامة الإحتجاج جماهيرياً  و لا نوايا لتغيير السياسة حكومياً.

قد يكون السبب هو في التطور التقني الذي أتاح قتل العدو عن بعد و دون وجود جنود يتعرضون للقتل فيهيج الناس. فقد أتاحت المسيرات الطائرة العملاقة عديد الهجمات القاتلة التي حظيت بتغطية إعلامية عادية مع أن آثارها كانت فادحةً في ساحات أفغانستان و العراق و اليمن و الصومال و سوريا و ليبيا. لكنها حفظت الجندي الأمريكي من التواجه في معارك مباشرة كانت حرب العراق فعلياً آخرها على ذلك المستوى. لم يكن الحال هكذا في حرب ڤييتنام مما أثار الغضب الجماهيري.

و أقل من ذلك في العراق و أفغانستان مما خلق بعض الإحتجاجات التي امتصتها الإدارة الحكومية. اليوم يقاتل الجندي و يقتل من قاعدةٍ بعيدة عن عدوه و ليس من ثائرٍ على هذه الممارسة التي تبقى طي العمل العسكري و خفيةً عن الإعلام الأمريكي باختياره. لا توجد عائلاتٌ مكلومة طفح بها الكيل لتعترض و تشكو.

لكن هذا الاستخدام التقني القاتل لا يبرر الريبة و الخوف و النبذ الذي يشعر به عامة الأمريكيين تجاه العرب. قد يؤيدون سياسة بلادهم و قد يرفضونها من باب العلم الأكاديمي أو المعرفة العامة لكنهم لا يتوقفون ليسجلوا موقفاً يفرض تغييراً.

كأنهم في قرارة نفسهم لا يشعرون ببشرية العرب كما يشعرون تجاه باقي شعوب العالم، مع التفاوت بالطبع من فرد لفرد. إن مشاعر جامدةً مثل هذه تشكلها منظومةٌ تعملُ على الوعي وما يؤثر فيه مواربةً و مباشرة مثل التعليم و الإعلام.

يتميز نظام التعليم الليبرالي والعلوم الإجتماعية الأمريكية بحرٌيةٍ لحدٍ لا نتخيله فهو يطرق أبواب المعرفة و الاستنباط بانفتاح و جرأة و تميز و لا يبخل بدراسة وتقييم منطقتنا و خلفياتنا و كل ما يتعلق بنا. و تحتفظ الجامعات و مكتبة الكونغرس بكل ما يخطر على البال من أدابنا و علومنا و ثقافتنا و فنوننا و سياساتنا و ما يفرقنا و ما يجمعنا. و لنا في مبادرة إبن الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب عبرةً فقد نذر مكتبة والده الشاعر لمكتبة الكونغرس إرثاً تحفظه.

و في هذه المؤسسات الأكاديمية أعلامٌ من المفكرين والعلماء العرب الذين سعوا ويسعون لتغيير النظرة العامة و الحكومية تجاهنا و تغيير السياسة كنتيجة. و هناك مؤسسات عربية و إسلامية تعني بالتحدث عن التمييز و الدفاع عن الضحايا و تنوير المجتمع. غير أنهم و بلا ذنب يقترفوه فهم مجتهدون مثابرون يحققون القليل من هذا فكلما ظنوا أنهم أحرزوا تقدماً يجدون أنهم دُفِعوا للوراء. فلا المجتمع الأمريكي يغير نظرته و لا السياسي سياسته. مؤسسة الحكم الأمريكية لا ترى فيهم إلا نشاطاً أكاديمياً بتأثيرٍ محدود و هو ما تريده و تعمل عليه. فبنظرها سيبقى الهدف الأمريكي في المنطقة دِيناً مُرَّوضاً و نفطاً مسيطراً عليه و إسرائيل فوق القانون.

إذاً فالتعليم الذي ينفتح على المنطقة و الذي يناقش حسنات و سيئات السياسة الأمريكية  محمودٌ في هذا لأبعد الحدود لكنه في النهاية لا يخرج عن هذه المحددات الثلاثة التي تفرضها المصلحة الأمريكية و النتيجة أن الدين في المنطقة بنظرها عائقٌ للتطور المدني الحر و ينبغي تحويره و أن النفط ثروةٌ بيدِ مبذرين لكن الحق في الثروة مسؤوليةٌ عامةٌ عالميةٌ تضطلع لها أمريكا وأن إسرائيل منارة الديموقراطية و التقدم و ستبقى، وأن العرب (أولئك الذين يهددونها) يجب أن يستسلموا للسلام معها كما يفعل غيرهم من العرب. ببساطة.

ثم يأتي الإعلام الأمريكي العالمي ليكمل تهذيب التفكير العام في أمريكا و العالم إلى أصغر القُرى تجاه العرب. لقد كُتِبَ الكثير عن ذلك. و باختصار، لم يبق لهوليوود من أشرار في ما تنتج إلا العرب و الروس. نحن العرب بنظرها عنصر الشر و مثلب الإنسانية و وضاعةَ الغريزة. يرى هذا المتابع الأمريكي مقارنةً بوجوه أنعمت عليها الصناعة السينمائية بالإنسانية فتتكرس عنده وعياً و تلقياً غير مباشر عبر السنوات كل الإعتبارات السلبية بخصوصنا.

حتى الإعلام الجاد الإذاعي حصراً لا يقتبس عنا إلا المزريات من الحوادث و المعايش. تنفذ من بين هذا التوجه منتثراتٌ قد تكون عادلة لكنها لا تؤثر كثيراً. بين التعليم و الإعلام تتشكل النظرة الأمريكية عنا و هي نظرة في أحسن أحوالها المؤسسية مزدرية و في أفضلها ميكياڤلية. كيف يمكن لنا أن نغير هذين المسارين لحيادية إن لم يكن لتوافقٍ معنا؟ هذا سؤال لصناع القرار العرب إن أرادوا تغييراً.

أما لنا نحن الذين لا نقرر و لكننا نؤمن بحقنا فلا مهرب من الثلاثية الحاكمة بالنسبة لنا: الدين ديننا و لا بديل له و النفط بأرضنا و إسرائيل عدوة محتلة. العاقل يحفظ دينه و ثروته و يقاوم عدوه. لكن الإدارات الأمريكية ترى في هذه الثوابت مبررات توجهاتها في تحوير و ترويض الدين و تقييد الثروة و حماية إسرائيل. كلما قلنا لا، قالت هاكم خذوا مزيداً من الظلم.

في أبجديتها لا وجود و لا مجال لوجود مقاوم. هذا بيت القصيدٍ العَصِّيْ:

أن نتخلى عن الدين و الثروة و نقبل المحتل. بعضنا فعل و سيفعل ذلك ليبقى و هو يُزَّوِّقُ فعله هذا بمبرراتٍ شتى و بجيشٍ من الفتاوي و النظريات و كثيرٍ من لي الذراع و الوقاحة لمن يقف أمامه. هل يا ترى سنرى لهذا البعض أمريكيين علماء و إعلاميين يمجدونه كعربٍ متحضرة؟ هل سيساوون بين هذا العربي وذلك الإسرائيلي في لغة العلم و الإعلام؟ هل بعد التطبيع سيصبح هؤلاء العرب أسوياء و خارج دائرة الشر التي رسمتها سنواتٌ من السياسة و الإعلام؟ لا ندري فعلاً و الأيام ستكشف عن هذا.

خلاصةَ القول أننا العرب الذين ضميرياً و وجدانياً ندين لأمريكا الجامعة و الأصدقاء علماً و ثقافةً و أسلوبَ حياةٍ  كنا و ما زلنا نحمل لها وداً و شوقاً و رجاءً. و نحمل نفس المشاعر لأصدقاء و زملاء عمل و أقارب أمريكيين. لكن ما تُظهرهُ أمريكا الرسمية من قبيح نواياها و ظالم أعمالها تجاهنا ديناً و ثروةً و مقاومةَ احتلال عنصريٍّ بفلسطين والجولان و لبنان تضعنا أمام خيارٍين هما إما بقاء الرجاء مع المقاومة أو الخيبة والاستسلام.

أنا لن أقول خيبةً و كراهيةً و مقاومة فهي صفات لا تلتقي. نحن لا نكره ولكننا نقاوم بعين النبيل. كم أود لو تصحو أمريكا لترى ظلمها ولكنه الوهم. خياراتها قاسية لن تتغير. وخيارنا أن نقول لها لا و نرجو و لو خيبتنا الآمال فالدين والثروة والأرض لنا شاءت أم رفضت.

* المصدر : رأي اليوم
* المقال يعبر عن رأي كاتبه