محمد محسن الجوهري*

التصعيد الأخير بين باكستان وجارتها أفغانستان ليس حدثاً طارئاً ولا خلافاً حدودياً فحسب، بل هو وليد التعاون المعلن وغير المعلن بين الرياض وإسلام أباد، تعاونٌ تتجاوز أبعاده الجغرافيا إلى عمق المشهد السياسي الإسلامي. فكلما حاولت باكستان أن تتقدّم خطوة نحو استقلال قرارها وتبنّي سياسات تعبّر عن طموحاتها كقوة إسلامية صاعدة، بادرت السعودية إلى احتواء هذا التوجّه، وإبقائها ضمن المدار الذي يخدم التوازنات التي ترعاها واشنطن وتل أبيب في المنطقة.



وكلنا نتذكر الهيبة التي حصدتها باكستان عقب تفوقها في الحرب الأخيرة مع الهند، وكان لذلك التفوق أن يوظف في مساره الصحيح، خدمةً للإسلام والمسلمين، وهذا ما كانت الأمة الإسلامية ترجوه من الإخوة الباكستانيين، لكن ذلك كله تبخر بمجرد أن التقى رئيس وزراء البلاد بحكام المملكة وانخراطه في اتفاقية تخدم أعداء الأمة وأعداء الشعب الباكستاني.



لقد تحوّلت العلاقة بين الطرفين إلى نموذجٍ واضحٍ لتبعية القرار السياسي، حيث تستخدم المملكة نفوذها المالي والديني للضغط على مراكز القرار الباكستاني، مستفيدة من حاجة البلاد المزمنة للدعم الاقتصادي والاستثماري. وبدلاً من أن تتوجّه إسلام أباد لبناء تحالفات مستقلة مع القوى الإسلامية أو الآسيوية الصاعدة، تراها ترهن جيشها وسياساتها الخارجية لخدمة أجندات آل سعود، الذين يفضّلون أن تبقى باكستان قوةً عسكريةً بلا وعي سياسي، تسهم في تثبيت هيمنة الغرب لا في تحدّيها.



ولعل أخطر ما في الأمر أن هذا النفوذ السعودي لا يقتصر على السياسة، بل يمتد إلى البنية الفكرية والدينية للمجتمع الباكستاني، من خلال دعم التيارات الوهابية وتوسيع نفوذها في المؤسسات الدينية والتعليمية، بما يضمن استمرار السيطرة على وعي الأجيال، وتكريس نموذجٍ من الإسلام المنعزل عن قضايا الأمة ومقاومتها. وهكذا، تُبقي السعودية باكستان أداةً وظيفية تُستخدم عند الحاجة، سواء في الحرب على اليمن أو في التوترات مع أفغانستان أو حتى في الملفات الإيرانية، بينما يُحرَم الشعب الباكستاني من توظيف قوته البشرية والعسكرية في ما يخدم قضايا المسلمين الكبرى.



إن هذه التبعية المركّبة ليست سوى انعكاسٍ لسياسةٍ أوسع يقودها المحور الصهيو-أميركي عبر بوابة الخليج، هدفها تفريغ القوى الإسلامية من مضمونها الحضاري وتحويلها إلى أدواتٍ أمنية واقتصادية تخدم المشروع الغربي في المنطقة. وبذلك، تُمنع باكستان من استعادة مكانتها كقلبٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ للعالم الإسلامي، وتُختزل دورها في حماية مصالح من جعلوا من الإسلام واجهةً لمشاريعهم الخاصة.



أما عن دوافع التصعيد فهي واضحة، وأهمها رفض أفغانستان لخطة المجرم ترامب في إعادة توظيف قاعدة "باغرام" العسكرية قرب العاصمة كابول، وهذا حق للشعب الأفغاني المسلم، وتتويج لمسيرة الاستقلال التي يخوضها رجاله منذ عقود وانتهت بدحر المحتل الأميركي من كل أرضه، ومن غير المنطقي أن تقبل كابول بهيمنة واشنطن من جديد وقد أذاقتها ويلات الحروب وتسبب في قائمة طويلة من الكوارث الإنسانية لشعبها المسلم.



وللعلم، فإن من السهل استدراج البلدين إلى مربع العنف حسب ما تقتضيه رغبة الدولة الغربية، والسبب ما يسمى بخط "دوراند" وهو الخط الحدودي الذي رسمه الإنجليز بين البلدين عام 1893 ويصل طوله إلى 2611 كيلومترًا ، عندما كانت باكستان جزءاً من الهند المحتلة، وقد رفضت الحكومات الأفغانية المتعاقبة الإقرار بهذه الحدود المصطنعة، وقد استُغلّ هذا الملف مراراً من قبل القوى الإقليمية والدولية لإشعال الأزمات وابتزاز الطرفين كلّما اقتضت الضرورة السياسية. واليوم، تبدو السعودية أحد أبرز المستفيدين من إبقاء هذا الجرح مفتوحاً، لما في ذلك من تعطيلٍ لأي تقاربٍ بين دولتين مسلمتين قد يشكّل محوراً مؤثّراً في وجه النفوذ الغربي.



* المقال يعبر عن رأي الكاتب