خلاف على كل شيء... إلا التطبيع: قراءة في الإعلام القطري والإماراتي
السياسية || محمد محسن الجوهري*
رغم المصالحة العلنية بين قطر والإمارات، والحديث عن انتهاء الأزمة الخليجية التي نشبت بين الطرفين منتصف العام 2017، إلا أن الحرب الإعلامية لا تزال على أشدها، بعيداً عن مصادر الإعلام الرسمية، حيث يكتظ الفضاء الافتراضي بالعديد من المنصات الموازية التي تهاجم بعضها البعض، وتتمحور حول صراعٍ وجودي بين الدوحة وأبوظبي، ويسعى كل طرف أن يثبت عمالة الآخر للعدو الصهيوني، دون أن يتحدث عن عمالة مموليه، وغالبًا ما تعمل هذه المنصات والقنوات ضمن شبكات معقدة من التمويل والتحرير، حيث تتداخل السياسة بالإعلام والفكر.
بدايةً يجب أن نُعرِّف "الإعلام الموازي" وهو الساحة الواسعة للصراع بين قطر والإمارات، وهو مصطلح يُستخدم لوصف المنظومات أو المنصات الإعلامية التي لا تنتمي رسميًا إلى الدولة أو لا تُعرِّف نفسها كوسائل إعلام حكومية، لكنها عمليًا تُدار أو تُموَّل أو تُوجَّه من قِبل جهات رسمية أو قريبة من السلطة السياسية أو الاقتصادية، وتقوم بدور تكميلي أو بديل عن الإعلام الرسمي. يُستخدم هذا النوع من الإعلام كأداة تأثير غير مباشرة، وغالبًا ما يكون أكثر مرونة في الطرح وأقل التزامًا بالأطر البروتوكولية التي تُقيّد الإعلام الرسمي.
وتعتبر قناة الجزيرة أول وسيلة إعلامية موازية في العالم العربي، وعبرها نجحت قطر في فرض نفوذها في محيطها الإقليمي، وتدرج الأمر إلى أن أصبحت الجزيرة وسيلة لابتزاز أطراف عربية وإسلامية لا تشكل تهديداً للدوحة، كما حدث في سورية، وبدأت قطر تقامر بالجزيرة، خاصة في إثبات ولائها للغرب على حساب منافسيها من العرب.
ومع اندلاع أحداث الربيع العربي عام 2011، تحولت الجزيرة إلى تهديد مرعب لدول الخليج، سيما تلك التي لها صراع تاريخ مع قطر، كالسعودية والإمارات، ومنذ تفجّر الأزمة الخليجية في عام 2017، احتدمت المواجهة الإعلامية بين الدوحة وأبوظبي، حتى تحولت إلى ما يشبه معركة سرديات متواصلة، تتداخل فيها رسائل الدولة مع محتوى منصات إعلامية ممولة وأخرى "مستقلة"، وتتسع رقعتها لتشمل الإعلام غير الرسمي، بما فيه من حسابات وهمية، وجيوش إلكترونية، وتسريبات موجهة.
وفي المقابل، صعّدت الإمارات من خطابها الإعلامي عبر قنوات كـ "سكاي نيوز عربية"، إلى جانب مواقع إلكترونية مثل "العين الإخبارية" و"24.ae"، التي اتبعت نهجًا تحليليًا وأخباريًا يهاجم السياسات القطرية بشكل مباشر، ويروّج للرواية الإماراتية التي تضع الاستقرار ومحاربة "التطرف" في مركز اهتمامها.
هذا الصراع الإعلامي لم يقتصر على الوسائل التقليدية، بل اتسع ليشمل الفضاء الرقمي بكثافة غير مسبوقة، حيث ظهرت منصات إعلامية ناطقة بالعربية والإنجليزية تنطق بلسان كل من الطرفين، وتستخدم خطابًا أكثر مرونة وشراسة في آنٍ واحد. في المعسكر القطري، ظهرت مواقع مثل "العربي الجديد"، و"ميدل إيست آي"، و"القدس العربي"، والتي تبنّت خطابًا ناقدًا للأنظمة العربية التقليدية، وطرحت سرديات معقدة حول التغيرات في المنطقة، مع دفاع صريح أو ضمني عن التحالفات القطرية مع تركيا وإسرائيل.
في المقابل، موّلت الإمارات منصات ناطقة بالإنجليزية مثل "The National" و"عرب ويكلي"، والتي حاولت إعادة تشكيل السردية المتعلقة بملفات مثل اليمن، ليبيا، والإخوان، من منظور يتماهى مع السياسات الإماراتية ويقدّمها على أنها حائط صد أمام الانهيار والفوضى.
لكن التحول الأخطر حدث في الإعلام غير الرسمي، حيث تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة مواجهة محتدمة. ظهرت جيوش إلكترونية تتبادل الاتهامات، وتروّج لتسريبات، وتنشر مقاطع مفبركة أو مجتزأة، وتعمل على إعادة تدوير أخبار مضللة. تم تداول تسريبات منسوبة لشخصيات في الأسرة الحاكمة القطرية، أو مقاطع قديمة أُخرجت من سياقها لتخدم أجندة معينة، كما تم نشر وثائق ورسائل بريد إلكتروني تقول كل جهة إنها تفضح ممارسات الطرف الآخر. الاتهامات بالقرصنة، والتجسس، وتوجيه الرأي العام عبر "الذباب الإلكتروني" كانت حاضرة بقوة، وغالبًا ما كانت تغذيها حسابات وهمية تدّعي الاستقلال أو تنشر بلغة محايدة، لكنها في الواقع تعمل ضمن إستراتيجية مدروسة.
وقد اتخذ الصراع الإعلامي طابعًا ثقافيًا أيضًا، فكل طرف سعى إلى تقديم نفسه كنموذج للحكم الرشيد: قطر من خلال دعم الحركات التي تصفها بـ"الإصلاحية"، والإمارات عبر ترويج نموذج الدولة المدنية المنضبطة التي ترفض خلط الدين بالسياسة.
وإذا كانت قطر والإمارات قد اختلفتا على كل شيء تقريبًا: من الثورة إلى الدين، ومن العلاقات الإقليمية إلى طبيعة الحلفاء، ومن تعريف الإرهاب إلى شكل النظام السياسي المنشود، فإن ما جمع بينهما رغم الخصومة هو توافقهما الصامت أو المعلن على التطبيع مع الكيان الصهيوني، كل وفق منطقه وأسلوبه وسياقه الزمني. وهو توافق يعكس مفارقة واضحة: اختلاف عميق في الخطاب، لكن التقاء عند خطوط التقاطع مع مشاريع النفوذ الخارجي، ما يطرح تساؤلات أكبر حول استقلال القرار الإعلامي، وحدود التمايز الحقيقي في عالم عربي مثقل بالاصطفافات وتناقضات المصالح.
قرآنياً فإن الصراع القطري – الإماراتي يعبر عن حالة من الصراع بين الفرق المبطلة، وبما أن الطرفين يتسابقان على إثبات الولاء للغرب والصهاينة، فإنهما على نفس القدر من العمالة والنفاق، وليس الأخير سوى العمالة لأعداء الأمة، وفي مقدمتهم اليهود والنصارى، فمن يتولهم من العرب فهو منهم، وصدق الله حيث قال (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (88 النساء ).
* المقال يعبر عن رأي الكاتب