أ.د. نور الدين أبو لحية*

شكّل اغتيال القادة الكبار في إيران مع بداية الحرب صدمة كبيرة لدى الكثير من الناس، واختلفت توجهاتهم في طريقة التعامل معها، ويمكن تقسيمهم إلى صنفين:
أولهما: من نزل ذلك على قلبه كالماء البارد، وتوهّم أن القدرة على اغتيال القدرة يعني القدرة على اغتيال النظام نفسه، واختلف هؤلاء في التعبير عن ذلك، فمنهم من أظهره بشماتة خالصة، ومنهم من مزج شماته ببعض النصح المريب..
وثانيهما: من أظهر حزنه وألمه، ولخوفه الشديد راح يعاتب الإيرانيين العتاب الشديد على التفريط والتقصير.


وسنوجّه كلماتنا للصنف الثاني، لأن الأول مصاب بمرض قلبي يصعب علاجه، ولا يمكن للكلمات وحدها، ولا للبراهين والأدلة أن تؤثر فيه، لأنه يحتاج إلى إخراج ورم الحقد من قلبه أولا، لأنه يمنعه من القراءة والتفكير والاستماع.. ولهذا الصنف نقول:
أولا: إيران منذ بداية تأسيسها انطلقت من القاعدة القرآنية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144]، ومن مقتضيات هذه القاعدة تنبّه القائد إلى أنه سيُغتال في أي لحظة، ولذلك يترك من التلاميذ والأتباع من يؤدون نفس دوره، وكأنه حاضر تماما.

ثانيا: أنه بسبب القاعدة الأولى، اضطر القادة إلى الاحتكاك بالطبقات المختلفة، لأنه لا يمكن أن يكون القائد قائدا، وهو لا يختلط بجمهوره، ليؤثر فيه، ويربيه، ويكون له القدوة الحسنة، وقد استلهموا هذا من سنة نبيهم الأكرم، كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، واستهلموه أيضا من إمامهم علي الذي استطاع المخربون أن يصلوا إليه في نفس الوقت الذي فشلوا في الوصول إلى غيره.

ثالثا: أن اغتيال القادة في أماكن عملهم يدلّ على الثبات، وأنهم لم يفروا، ولذلك استشهد حمزة في أحد، وهو القائد الفذ الشجاع في نفس الوقت الذي نجا فيه الفارّون.. فهل كان حمزة أغبى من أولئك الذين فروا بأنفسهم، وتركوا المهام الموكلة لهم؟.. ولذلك نرى القرآن الكريم يذكر قتل الأنبياء وهم قادة أممهم، فيقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، ونلاحظ هنا أن الله تعالى قدّم ذكر قتل الأنبياء على قتل أتباعهم من الربانيين، ليدل على أنهم السباقون لذلك.

رابعا: أن القادة في إيران، وبناء على التربية التي تلقوها من المدرسة الخمينية أصحاب عرفان، وتوجه روحي، ولذلك نراهم في المساجد والحسينيات، بل نراهم ينظفون دورات المياه، وذلك ما سهل لأي جهة مخربة أن تصل إليهم، وتصلهم بأجهزة تعقب.

خامسا: أننا كمسلمين نعتقد بأن لكل إنسان أجلا محدودا لا يتعداه، ولذلك يتمنى كل مسلم أن يكون خاتمة أجله شهادة في سبيل الله.. ولذلك نرى لكل هؤلاء القادة وصايا، وكلمات تعبر عن شوقهم للشهادة.. ومن شاء أن يطلع عليها سيرى الكثير منها في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في القنوات الخاصة بهم.. ولذلك نرى أن كل ما حصل لهم هو استجابة من الله الكريم لدعواتهم، وبعد أن أدوا ما عليهم، وخلفوا من الخلفاء الصالحين من يسد مكانهم.

سادسا: وهو مما لا علاقة له بالقادة أنفسهم، وإنما بالوضع في إيران.. فإيران اجتمع عليها كل محور الشر بما يملكه من قدرات وأجهزة وأموال.. وأقمار صناعية.. وما لا يمكن تخيله من الوسائل التي استثمرها، ولمدد طويلة.. إلى أن ظهرت ثمراتها فيما نراه من أحداث، ولذلك لا يستغرب أن يحصل ما حصل، مثلما رأينا في لبنان من هجوم البيجرات، والذي خطط له، ولفترة طويلة.. والقرآن الكريم يشير إلى هذا، ومن قرأ سورة براءة، عرف أن الجهة التي تمثل الحق لا يمكن أن يتركها الشيطان من غير أن يعكر صفوها بأنواع المندسين.

سابعا: أن إيران دولة متسعة الأطراف، وفيها الكثير من الديانات والطوائف، ومنهم من كان مستفيدا من الوضع السابق، وخاصة البهائيين، وفيهم من غرته السعودية والتيارات السلفية والحركية.. وهؤلاء جميعا يدخلون بحسب القوانين الإيرانية لأي مدينة، بل يمكنهم أن يصلوا لأي قائد، وبالطرق المختلفة، خاصة مع تشدد القضاء الإيراني في المطالبة بالدليل على كل تهمة توجه لأي طرف.. وهو ما استغله هؤلاء، وحال دون تمكن المخابرات من أداء دورها كما ينبغي.. ذلك أن المخبر يحتاج أولا إلى إذن قضائي قبل التنصت على أي جهة.. ومن تابع مسلسل غاندو، والذي هو من إنتاج المخابرات الإيرانية عرف ذلك.

هذه سبعة أمور ربما تكون مقنعة للصادقين الذين يتساءون عن سر ما حصل.. ونضيف إليها بأن من بركات ما يحصل من اغتيالات الكشف عن العملاء، وشبكاتهم، وذلك ما يطهر الصف الداخلي الإيراني، بالإضافة إلى أنه لا يسقط شهيدا عالم أو قائد إلا ويتركه خلفه من التلاميذ من يؤدون نفس مهامه، وبكل جسارة واقتدار، كما دل على ذلك الواقع.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب