السياسية : تقرير || صادق سريع*

تشكّل المواجهات العسكرية المحتدمة بين إيران و"إسرائيل" لحظة تاريخية فارقة لاختبار قدرات التقنية المتقدمة وقوة الردع العابر للحدود، في فضاء معركة الوجود بين أنظمة الدفاع المتطورة وتكنولوجيا الصواريخ الباليستية الإيرانية والمقاتلات "الإسرائيلية" من مسافة جغرافية تقدر بـ 1500 كم.

المواجهة بدأت بشن "إسرائيل" عدوان جوي غادر على إيران بسلسلة من الغارات الجوية، فجر جمعة 13 يونيو الجاري، باسم عملية "الأسد الصاعد"، استهدفت عدداً من القيادات والقواعد العسكرية وشخصيات ومنشآت نووية، مستغلة أجواء التفاوض الدبلوماسي بين واشنطن وطهران، التي كان من المقرر بدء الجولة السادسة من جولات المفاوضات النووية، يوم الأحد الفائت، بوساطة عُمانية في العاصمة مسقط.

الرد الذي كسر نشوة الكيان

بعد الهجوم المباغت، الذي ظنّت "إسرائيل" أنه الضربة القاضية لطهران، جاء الرد الإيراني مبكراً وغير متوقع مساء اليوم ذاته، فكان بمثابة الفاجعة التي أحزنت فرحة قادة الكيان وكسرت نشوة رئيس حكومته المجرم بنيامين نتنياهو، برؤية مشاهد موجات الصواريخ الباليستية والفرط صوتية التي أطلقها الجيش الإيراني باسم عملية "الوعد الصادق 3" إلى معقل الكيان، يافا المحتلة، مستهدفة منشآت عسكرية وحيوية وأهداف حساسة، على رأسها وزارة الحرب (الكرياه)، وخلفت دماراً هائلاً في البنى التحتية ومباني المستوطنات.

وعلى الرغم من تشديد الرقابة الأمنية للكيان بتكتيم المعلومات عن المواقع المستهدفة، غير أن ذلك الإجراء أخفق أمام قوة العدسات الرقمية التي نقلت مشاهد الدمار بالصوت والصورة إلى العالم في مباني مجمعات وزارة الحرب (الكرياه) ومعهد "وايزمان" للعلوم بيافا المحتلة، الذي يعتبر "العقل النووي لـ'إسرائيل'"، والمقار الاستخباراتية العسكرية والأمنية الحساسة، ومصافي النفط بحيفا المحتلة، وأهداف أخرى في عدة مناطق إستيطانية بفلسطين.




..وغير قواعد اللعبة

لقد حققت إيران أهدافاً إستراتيجية، باعتماد تكتيك الإغراق الناري الهجومي بإطلاق الموجات الصاروخية، التي مكنتها من اختراق منظومات الدفاع "الإسرائيلية" الأحدث في العالم، ونجحت في تغيير قواعد اللعبة، من حالة الصدمة إلى الهجوم الانقضاضي واستباحة حرمة سماء "إسرائيل"، التي طالما راهنت على قدرات أنظمة الردع والدرع الحصين لصد أي هجوم.

ليس ذلك فحسب، بل تمكنت إيران بالتفوق التكنولوجي لصواريخها الباليستية من إرباك الدفاعات الجوية "الإسرائيلية" واستنزاف قدراتها، في رسالة عسكرية واضحة حُمّلت على رؤوس الصواريخ الفرط صوتية، عنوانها من جمهورية إيران الإسلامية إلى كيان "إسرائيل"، ومفادها؛ أن عمق الكيان المؤقت لم يعد آمناً، بعجز تقنيات دفاعاته الجوية الحديثة عن صد نيران صواريخ طهران.

وقد علّق خبراء موقع "بيزنس إنسايدر" على هجوم طهران، بالقول: "لم يكن الهجوم الصاروخي الإيراني استعراضاً للقوة فقط، بل اختباراً لقدرة منظومات الدفاع الباليستي الإسرائيلية "آرو" على التعامل مع وابل من موجات الصواريخ".





..وخسارة العدو الرهان

وبينما كانت "إسرائيل" تراهن على عدوانها الغادر لتحقيق جملة من الأهداف الإستراتيجية، أبرزها كسر ذراع نظام طهران وإسقاطه، وتدمير منشآت البرامج النووي الإيراني بالإستهداف الممنهج للقيادات العسكرية والعلمية ومنصات أنظمة الدفاع الجوية، وضرب وحدة دول محور المقاومة (إيران واليمن ولبنان) الداعمة للقضية الفلسطينية والمساندة لمقاومة غزة ضد العدوان الصهيوني المستمر على القطاع منذ 7 أكتوبر 2023.

أن نجاح أنظمة الدفاعات الجوية الإيرانية في إسقاط ثلاث طائرات من طراز F-35 وأسر طياريها، وعدد كبير من المسيرات، قد أجبّر الجيش "الإسرائيلي" على تخفيض هجماته الجوية بالمقاتلات الحربية خوفاً من إسقاطها، في حين إيران كثّفت من موجات الصواريخ الـ13 التي أطلقتها على "إسرائيل" لليوم السابع منذ بدء معركة كسر العظم، محدثة دماراً هائلاً داخل الكيان، وقد شاهدته الصهاينة بأعينهم لأول مرة.

ومع نجاح الأمن الإيراني في كشف شبكات عملاء الموساد "الإسرائيلي" وضبط ورش تصنيع المسيرات ومنصات الإطلاق التي أستخدمتها لتنفيذ عمليات هجومية مباغتة بالمسيّرات لضرب أهداف من عمق إيران من داخل أراضيها، وإفشال خطة تحريك الخلايا النائمة لبث الفوضى وإخلال الوضع الأمني وخلخلة الجبهة الداخلية، تغيرت المعادلة العسكرية بعد أن فقدت "إسرائيل" ورقة الضغط التي كانت تراهن عليها، ما يعد فشلاً استخباراتياً صهيونيّاً لصالح إيران في تغيير مسار الصراع السيبراني والتكنولوجي والاستخباراتي والعسكري.





..وانهيار منظوماته الدفاعية

في تقرير يستعرض أثار الهجمات الإيرانية، قالت صحيفة "ذا تلغراف" البريطانية: "إن مشاهد الدمار في 'إسرائيل' تثير القلق بشأن انهيار منظومات الدفاع المنيعة، بما فيها القبة الحديدية، تحت وابل الصواريخ الإيرانية التي اخترقت كل تلك الطبقات الدفاعية الشهيرة".

وأضافت متسائلة عن كيفية حدوث الاختراق؟: "إن إطلاق وابل من الصواريخ في وقت واحد يصعب مهمة أفضل أنظمة الدفاعات الجوية، خصوصاً هجمات الصواريخ الإيرانية التي تحلّق بسرعات تفوق سرعة الصوت، وتتجاوز سرعات 5 ماخ و9 ماخ، ما يحد من فعالية اعتراضها"، معزية أسباب إقرار الجيش 'الإسرائيلي' إلى إخفاق أنظمته دفاعاته غير المُحكمة، مثل السهم 3، وحيتس 3، ومقلاع داوود، الأحدث في العالم.

وفق خبراء "ذا تلغراف"، تطلق إيران الصواريخ الباليستية لتشتيت وإغراق الدفاعات الجوية "الإسرائيلية"، ما يفتح المجال لدخول صواريخ أكثر تطوراً، مثل صاروخ "سجيل"، الذي أُطلقته مؤخراً على الكيان لأول مرة.

وإذ أقرت صحيفة "هآرتس" العبرية بمحدودية الضربات العدوان 'الإسرائيلي' على أهداف نووية إيرانية، التي اعتُبرت الهدف المُعلن للمقاتلات الصهيونية، اعترفت بدقة استهداف صواريخ طهران لأهداف حساسة في عمق "إسرائيل"، وحجم الدمار الهائل الذي تُخلّفه.

..وهم السلام الأمريكي

في الحدث ذاته، وبينما أمريكا توهم العالم بانتهاج القنوات الدبلوماسية بالتفاوض مع إيران على الملف النووي، أطلقت لجام كلبتها المسعورة "إسرائيل" لمهاجمة إيران غدراً بذريعة ضرب الخطر النووي لطهران، لهدف عدواني غير مبرر: ليّ ذراع النظام الإيراني وإخضاعه على الموافقة على الشروط المجحفة التي وضعها مفاوض واشنطن على طاولة التفاوض النووي.

وكالعادة، تستخدم الولايات المتحدة شماعة خطر الأسلحة النووية لتدمير قدرات الشعوب وقمع الأنظمة التي تسعى للاستفادة من تقنيات برامج الطاقة النووية في كافة المجالات الحياتية، من تلك الدول التي رفضت إملاءات نظام واشنطن وهيمنة صقور البيت الأبيض: الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

بعد أن أدركت أمريكا أن انهيار "إسرائيل" أصبح وشيكاً، لا تزال واشنطن تدرس خيارات التدخل المباشر في المواجهة، وقد صرح رئيسها ترامب بجملة من التصريحات بلغة العويل الأمريكية، هدّد فيها إيران، وحذّر سكان طهران بسرعة الإخلاء، وتوعّد النظام الإيراني بالتدخل العسكري لإنقاذ حليفته قبل وقوع الهزيمة التي بدأت معالمها تتضح جليّاً في تراجع عملياتها الهجومية وإخفاق قدرات أنظمتها الدفاعية على صد صواريخ إيران التي باتت مسيطرة على أجواء الأراضي المحتلة.

وقد بلغت حصيلة ضحايا شهداء إيران جراء العدوان الجوي الصهيوني في يومه السابع، أكثر من 150 شهيداً وأكثر من ألف جريح، وفقًا لوزارة صحة طهران، في المقابل، أدى الرد الصاروخي الإيراني ردّاً على العدوان على 'الإسرائيلي'، إلى مقتل أكثر من 24 مستوطناً وإصابة أكثر من 900 آخرين، وفقاً للإعلام العبري.

..والخلاصة:

وفق رؤية الخبراء والمحللين العسكريين، فإن المواجهات العسكرية الجارية بين إيران و"إسرائيل" تُعد بين مدرستين عسكريتين متناقضتين؛ فـ"إسرائيل" راهنت على الضربة الحاسمة في البداية، وإيران تراهن على الضغط العسكري والاستنزاف بانتهاج معركة النفس الطويل، في محاولة من القوتين المتصارعتين على فرض قواعد اشتباك ومعادلات عسكرية جديدة جديدة، وإعادة تعريف مفهوم الردع حرفيّاً، وحتى ذلك الحين ينتظر العالم من المدرسة العسكرية التي سترفع الراية البيضاء.