القرآن والحضارة.. قراءة في رؤية السيد حسين ومشروعه العظيم
السياسية || محمد محسن الجوهري*
ليست الأزمة في الإسلام وإنما في سلوك المسلمين الذين حادوا عن هديه، حتى أصبحوا في ذيل الأمم، تتنازعهم القوى، وتُستباح ثرواتهم، ويُستعبد أبناؤهم في عقر أوطانهم. وما يحدث اليوم في غزة من خذلان وخنوع، ليس إلا صورة مأساوية لانحرافٍ عميقٍ عن الدين، بعد أن فُرّغ من جوهره، واستُبدلت مضامينه العظيمة بقشورٍ وشكليات لا صلة لها برسالة الإسلام، التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
لقد نبّه السيد حسين بدر الدين الحوثي، رضوان الله عليه، إلى واحدة من أخطر محطات الانحراف، وهي غياب التفكر والتدبر، وهما من أعظم ما دعا إليه القرآن في عشرات المواضع، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، {قُلْ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، لكن أمة الإسلام عطّلت هذه الفريضة، ففقدت بذلك هويتها، وتحوّل الدين في حياتها إلى شعائر خاوية، وألفاظ جامدة، وعقائد موروثة لا تصنع حضارة ولا تحرر أرضاً.
لو كان التفكر كما أراده الله مجرد تأملٍ نظري، لما خلق هذا الكون العظيم المليء بالآيات والممكنات، بل لكانت شجرة واحدة كافية ليعلم الناس أن الله موجود. لكن الله أرادهم أن يتفكروا ليعمِّروا، ويكتشفوا، ويتحركوا، ويكونوا سادة الأمم، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]، غير أن الأمة أعرضت عن هذا الطريق، وضيّعت فرصتها في السيادة والاستخلاف الذي أراده الله من التفكر، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
لقد توهّم المسلمون أن الإسلام يناقض العلم، فاستسلموا للتخلف، وسلّموا زمام المبادرة لأعدائهم، بعدما جمّدهم فقهاء الكلام تحت سقف جدالاتٍ عقيمة لا تنتهي، مستوردين ثقافات غريبة عن روح القرآن، كاليونانية والهندية، فبدلاً من أن يُسخّر الدين لبناء الحضارة، سُخّر لتكريس الجمود، وضُربت الأمة في عقلها قبل أن تُضرب في جسدها.
وتكمن المفارقة العظيمة في أن الإسلام الذي يُقدّمه السيد حسين، هو الإسلام الذي ينسجم مع العقل، ويتكامل مع العلم، ويقدّم الكون بوصفه صورة تطبيقية للقرآن، كتاب الله المنظور، الذي يدعو الإنسان إلى السير في الأرض، واستكشاف قوانينها، وتسخيرها للخير، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا} [العنكبوت: 20].
أما الإسلام المشوّه الذي نعرفه من وعاظ التقليد، فهو دين تأملٍ نظريٍّ جامد، يجعل من التفكر وسيلة لتأكيد وجود الله، وكأن الإنسان لا يعرف بفطرته أن له رباً، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. وهذا التصور القاصر هو ما جعل الكثيرين يرون الإسلام عائقًا أمام التقدم، بل سببًا للتخلف، فزهدوا فيه، وتركه بعضهم وراء ظهره.
لكن رحمة الله بالناس عظيمة، فقد سخر لهم من يبيّن هذا الدين على حقيقته، ويوصلهم إلى القرآن كما هو، كتاب حياة وهداية ونور، {هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} [الأنعام: 104]. والمشروع القرآني، بقيادة السيدين حسين وعبدالملك، هو من أعظم نعم الله على هذه الأمة، لأنه أعاد للدين وظيفته العملية، وربط بين الروح والعقل، والسماء والأرض، والغاية والوسيلة.
بهذا المشروع عرفنا أن القرآن ليس كتاب وعظٍ أو تسلية، بل خارطة وجود، وكتاب قيادة للأمم، ودستور حضاري يتضمن علم النفس والاجتماع والسياسة والتزكية، ويهدي للتي هي أقوم، كما قال تعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وهذه الهداية لا تكون إلا عبر من اصطفاهم الله لوراثة كتابه، كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، فهم قرناء القرآن، وأهل البصيرة، والواسطة بين الناس والنور الإلهي.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

