الأطماع التركية: أردوغان وحلم الهيمنة العثمانية الجديدة
السياسية:
كيان الأسدي*
منذ سقوط الدولة العثمانية، لم تغب الأطماع التركية في المنطقة عن الأفق السياسي لأنقرة، بل بقيت كامنة في الخطاب الرسمي والوجدان القومي، تتحين اللحظة المناسبة لتنفجر مجددًا على شكل مشاريع توسعية وسياسات تدخلية. ومع صعود رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم، تحوّل الحلم العثماني القديم إلى مشروع سياسي معاصر يسعى إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، ولا سيما في العراق، حيث تتجلى طموحات أنقرة بأوضح صورها، وبالأخص في مدينتي الموصل وكركوك اللتين تشكلان حجر الزاوية في الذاكرة التوسعية التركية.
الموصل وكركوك: أراضٍ “مفقودة” في الذاكرة التركية
تعتبر تركيا الموصل وكركوك جزءًا من “الأراضي المفقودة” التي انفصلت عن الجغرافيا العثمانية بعد معاهدة لوزان عام 1923، ومحاولة استعادتها عبر المسار الدبلوماسي والعسكري في عام 1926، والتي انتهت بقرار عصبة الأمم بضم ولاية الموصل إلى العراق. هذا القرار لم يُنهِ التطلعات التركية، بل رسّخ شعورًا بالغبن ظلّ حاضرًا في الخطاب القومي التركي، ومصدرًا لتطلعات متجددة بالاسترجاع، ولو بصيغ غير مباشرة.
لقد بقيت هذه الرغبة في استعادة النفوذ تحت السطح، تنتظر التحولات الإقليمية الكبرى لتعيد فرض نفسها، وهو ما حدث فعليًا في ظل الفوضى الإقليمية التي أعقبت احتلال العراق عام 2003، ثم الحرب على داعش، حيث وجدت أنقرة الذريعة للتدخل بحجة محاربة “الإرهاب” المتمثل في حزب العمال الكردستاني (PKK)، لكنها سرعان ما وسّعت أهدافها لتشمل النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني.
التدخل التركي: أدوات متعددة، هدف واحد
التغلغل التركي في العراق لا يقتصر على التواجد العسكري، بل يعتمد على استراتيجية متعددة الأبعاد تشمل أدوات ناعمة وخشنة، تُستخدم بشكل متكامل لترسيخ النفوذ وتحقيق السيطرة التدريجية:
• ورقة المياه: عبر بناء السدود على نهري دجلة والفرات، تتحكم تركيا بمصدر حياة العراق، ما يشكل سلاحًا جيوسياسيًا تستخدمه للضغط على بغداد. هذه السيطرة تؤثر بشكل مباشر على الأمن المائي والغذائي للعراق، وتدفعه إلى تقديم تنازلات سياسية واقتصادية.
• ورقة الاقتصاد: الشركات التركية غزت السوق العراقية في قطاعات التجارة، البناء، والسياحة، ونجحت في خلق حالة من الاعتماد الاقتصادي على تركيا، وهو ما يُستخدم كورقة ضغط غير معلنة، لكنها فعّالة في توجيه القرار العراقي.
• ورقة السياسة: تدعم أنقرة أطرافًا سياسية عراقية تتبنى فكر جماعة الإخوان المسلمين وتدين بالولاء لأنقرة. ومن أبرز هذه الشخصيات خميس الخنجر، الذي يشكل أحد أهم أدوات تركيا في اختراق المشهد السياسي العراقي، وتوجيهه بما يخدم أجندتها الإقليمية.
• ورقة الأمن: بحجة ملاحقة عناصر PKK، أنشأت تركيا عشرات القواعد العسكرية داخل الأراضي العراقية، وفرضت وجودًا ميدانيًا مستمرًا، خصوصًا في مناطق ذات حساسية طائفية وإثنية، بما يهدد وحدة العراق وسيادته.
المجاميع المحلية المرتبطة بتركيا: أدوات على الأرض لفرض النفوذ
بعيدًا عن التدخلات العسكرية النظامية، دعمت تركيا تشكيل مجاميع مسلحة محلية تعمل لصالحها وتنفذ أجندتها في الشمال العراقي. هذه المجاميع ليست تركية، لكنها ترتبط وظيفيًا وتمويليًا بأنقرة، وتُستخدم كأذرع محلية تُمكّن أنقرة من تحقيق أهدافها دون التورط المباشر.
• قوات درع كركوك: مجموعة مسلحة تم تشكيلها بدعم تركي لتعزيز السيطرة في كركوك، المدينة الغنية بالنفط والمتعددة الأعراق. تستخدمها تركيا لضمان موطئ قدم دائم في هذه المنطقة المتنازع عليها، ما يُعتبر تهديدًا للتوازن الإثني المحلي.
• حرس نينوى: قوة محلية تأسست في محافظة نينوى تحت إشراف تركي، تتكوّن أساسًا من عناصر ترتبط سياسيًا وفكريًا بتركيا. هدفها الظاهري هو حفظ الأمن، لكن دورها الحقيقي يتمثل في تمكين المشروع التركي داخل المناطق السنية في الشمال.
تُمثل هذه المجاميع أداة ميدانية فعالة في فرض الإرادة التركية على الأرض، مع منح أنقرة هامش إنكار في حال تصاعد الانتقادات الإقليمية والدولية.
مشروعان استراتيجيان: "الوطن الأزرق" و"طريق التنمية"
ضمن سياستها التوسعية، أطلقت تركيا مشروعين استراتيجيين يحملان أبعادًا جيوسياسية تهدف إلى إعادة ترسيم نفوذها في المنطقة:
• مشروع “الوطن الأزرق”: هو عقيدة بحرية تُوسّع نطاق المصالح التركية لتشمل شرق المتوسط. يهدف المشروع إلى بسط النفوذ على الممرات البحرية وحقول الغاز، ويعكس الطموح التركي في التحول إلى قوة بحرية إقليمية، وهو ما يعزز موقع أنقرة في صراعات الطاقة والملاحة الدولية.
• مشروع “طريق التنمية”: مشروع اقتصادي ضخم يربط تركيا بالخليج عبر الأراضي العراقية، ويجعل من العراق مجرد ممر تجاري في شبكة تخدم المصالح التركية أولًا. ورغم أن المشروع يُقدَّم بغطاء تنموي، إلا أنه في جوهره يعكس سعي أنقرة إلى فرض تبعية اقتصادية على العراق، وتحويله إلى جزء من المنظومة التركية الناشئة في الشرق الأوسط.
بين التغلغل الناعم والتدخل العسكري المباشر
تركيا اليوم لا تخفي أطماعها في العراق، بل تمارس سياسة توسعية ممنهجة، تجمع بين القوة الناعمة والصلبة، وتسعى من خلالها إلى إعادة إحياء الدور العثماني القديم بثوب معاصر. مشروع “العثمانية الجديدة” الذي يتبنّاه أردوغان لم يعد مجرد خطاب أيديولوجي، بل سياسة فعلية تنفذ على الأرض، تهدد أمن العراق ووحدته واستقلال قراره.
وفي ظل هذا المشهد، يبقى العراق أمام تحدٍّ حقيقي: هل يمتلك الإرادة والقدرة على صدّ هذا التمدد، أم أنه سيواصل الانزلاق إلى حالة التبعية التي تُصاغ بحنكة من خلف الحدود وتُنفذ عبر أدوات داخلية؟
* المقال يعبر عن رأي الكاتب