مأساة العمالة المسلمة في بلاد الحرمين
السياسية || محمد محسن الجوهري*
في قلب الجزيرة التي كانت مهد الرسالة ومهبط الوحي، يعود شبح العبودية ليخيم من جديد، لا بصورته القديمة فقط، بل بشكل أكثر تنظيمًا وتقنينًا، يختبئ خلف أسماء قانونية ونظم إدارية كـ"نظام الكفالة"، الذي يُعدّ في جوهره شكلاً من أشكال الاستعباد المعاصر. هذه المأساة، التي تعانيها ملايين العمالة المسلمة الوافدة إلى ما يُعرف ببلاد الحرمين، هي في حقيقتها كارثة إنسانية وأخلاقية، تتطلب وقفة صادقة من العالم الإسلامي بأسره.
يُجبر العمال القادمون من الدول الإسلامية الفقيرة على الخضوع لنظام يكبل حرياتهم، ويجعل مصيرهم معلقًا برضا "الكفيل"، الذي يملك السلطة شبه المطلقة عليهم: من صلاحية احتجاز جوازات سفرهم إلى منعهم من التنقل، بل وحتى التحكم في قراراتهم الشخصية والوظيفية. وكثيرًا ما يُمارس بحقهم الاستغلال الجسدي والنفسي والمالي، في ظل غياب آليات فعالة لمحاسبة المتجاوزين.
وما يزيد من فداحة الأمر أن هذه الانتهاكات تجري في بلد يحتضن أطهر بقاع الأرض: مكة والمدينة، اللتين يفترض أن تكونا رمزًا للعدل والرحمة. لكن بدلاً من أن تُجسد القيم الإسلامية العليا في التعامل مع الإنسان، يُعامل الآلاف من المسلمين معاملة دونية، لا تليق بكرامتهم كأبناء لأمة "أكرمكم عند الله أتقاكم"، بل يُنظر إليهم كخدم مؤقتين، يُستغلون ثم يُتخلص منهم بعد انتهاء صلاحيتهم الاقتصادية.
هذه السياسات ليست عشوائية أو فردية، بل هي جزء من مشروع متكامل يسعى إلى تقويض كل ما هو إسلامي حقيقي في أرض الحرمين، واستبداله بمنظومة تُقدّس الحاكم وتُمجّد الأسرة المالكة، وتُحاصر كل من تسوّل له نفسه المطالبة بإصلاح أو عدالة. يتم هذا التغييب الممنهج للوعي الإسلامي، من خلال المناهج الدراسية، والخطاب الإعلامي، والسياسات العامة، بحيث يُعاد تشكيل هوية البلاد لتدور في فلك العائلة الحاكمة، لا حول قيم الإسلام النقي وأخلاقه.
وليس من قبيل المصادفة أن تُهدم آثار الرسول وأهل بيته وصحابته، في حين تُحفظ ممتلكات مؤسس الدولة السعودية وتُعرض في المتاحف. لقد اختُزل تاريخ الإسلام إلى ما يخدم النظام، فيما تم تشويه القيم النبوية التي قامت على المساواة والعدل ورفع الظلم.
إن ما يعيشه العمال المسلمون في بلاد الحرمين اليوم، من قهر وامتهان وظلم، هو امتداد لانحراف خطير عن روح الإسلام، الذي جاء محررًا للعبيد، وناصرًا للمستضعفين، ومُعلِيًا لكرامة الإنسان، دون اعتبار للون أو جنسية أو طبقة. إن استمرار هذه المظالم، في ظل صمت عالمي وتواطؤ إعلامي، هو إهانة للأمة بأكملها، وتذكير بأن العدالة الإسلامية ما تزال غائبة عن أكثر بلاد المسلمين قداسة.
إن من واجب العلماء والمفكرين والمؤسسات الحقوقية، بل ومن واجب الشعوب الإسلامية نفسها، أن ترفع صوتها عاليًا في وجه هذه الانتهاكات، لا فقط من باب التضامن الإنساني، بل من منطلق ديني وأخلاقي. فالدفاع عن حقوق العمال المسلمين في بلاد الحرمين هو دفاع عن قدسية المكان، وعن روح الإسلام التي تتعرض اليوم لمحاولة طمس وتزييف.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب