الرأسمالية أداة صهيونية لاستعباد الشعوب
السياسية || محمد محسن الجوهري*
من يملك الاقتصاد، يفرض قراره. هذه الحقيقة البسيطة باتت قلب المشروع الغربي الرأسمالي في فرض رؤيته على العالم. الولايات المتحدة مثلًا، وهي القوة المركزية في هذا المشروع، تبسط هيمنتها لا فقط بجيوشها المنتشرة في القواعد العسكرية، بل بما هو أعمق وأطول مدى: السيطرة على النظام المالي العالمي، والدولار بوصفه العملة المرجعية، والمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي. عبر هذه الأدوات، يتم إخضاع الدول الفقيرة والنامية لسلسلة من الشروط الاقتصادية التي تُفقدها سيادتها، وتحوّلها إلى تابعة لمنظومة عالمية محكومة من مراكز مالية غربية.
فالعولمة الرأسمالية التي رُوِّج لها أكثر بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، لم تكن مشروعًا بريئًا للتنمية والتكامل، بل كانت خطة استراتيجية لفتح أسواق العالم أمام الشركات الغربية العملاقة. هذه العولمة جاءت بمفاهيم مثل الخصخصة وتقليص دور الدولة وحرية الاستثمار، لكنها في كثير من الأحيان أدّت إلى تفكيك الاقتصادات المحلية، وزادت الفقر، وأضعفت البنية الاجتماعية للدول التي تبنّتها دون شروط أو حذر. تحوّلت الدولة من راعٍ للمجتمع إلى مجرد وسيط بين المستثمرين الأجانب والسكان المحليين، وغالبًا ما أصبحت عاجزة عن حماية مصالح شعبها.
وهنا نصل إلى الحلقة الأخطر: الشركات الكبرى التي لم تعد كيانات اقتصادية عادية، بل تحولت إلى دول داخل الدول، تمارس سلطتها دون أن يُنتخب أحد من إداراتها، ولا تخضع لأي رقابة شعبية أو قانونية حقيقية. شركة مثل BlackRock، على سبيل المثال، وهي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، تدير وحدها ما يفوق 10 تريليونات دولار — أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادات كبرى مجتمعة. هذه الشركة لا تملك فقط القدرة على التأثير في الأسواق، بل تستطيع توجيه السياسات المالية وحتى البيئية لدول بأكملها من خلال ضغوطها الاستثمارية.
في العالم العربي، تشكل الشركات الكبرى، خصوصًا متعددة الجنسيات منها، جزءًا أساسيًا من منظومة الهيمنة الاقتصادية التي تُمارس تحت غطاء الخصخصة والعولمة. بعد أن اتجهت الحكومات العربية في العقود الأخيرة نحو خصخصة المؤسسات العامة وفتح الأسواق للاستثمارات الأجنبية، فتحت الباب واسعًا أمام هذه الشركات لدخول قطاعات استراتيجية وحيوية مثل الطاقة، المياه، الغذاء، والاتصالات. هذا الدخول لم يكن بريئًا أو محايدًا، بل ارتبط بعلاقات وثيقة مع نخب سياسية واقتصادية محلية تُسهل لهذه الشركات تحقيق مصالحها، غالبًا على حساب المصلحة الوطنية.
نتيجة لهذا التحالف، بدأت السيادة الاقتصادية تتحول من الدولة والشعب إلى هذه الشركات التي تفرض شروطها وأسعارها، وتسيطر على الموارد الأساسية التي يعتمد عليها المواطنون يوميًا. في كثير من الدول، مثل مصر، العراق، الأردن، والمغرب، لاحظنا كيف أن أسعار المياه والكهرباء والخدمات الأساسية ارتفعت بشكل كبير بعد استحواذ شركات أجنبية على إدارتها، مما أدى إلى تفاقم أوضاع الفقراء وازدياد معدلات الفقر والتهميش.
أما الإنتاج المحلي، فهو في كثير من الأحيان ضحية هذه السياسات، إذ تتحول الاقتصادات العربية من صناعية وزراعية إلى ريعية وخدمية، تعتمد بشكل كبير على الاستيراد وعلى القطاعات التي تخدم مصالح الشركات الأجنبية، بدلاً من بناء اقتصاد متين ومتنوع يخدم حاجات الشعوب.
على صعيد آخر، تلعب شركات التكنولوجيا والإعلام دورًا محوريًا في تفكيك الهوية الجماعية للمجتمعات العربية. من خلال سيطرتها على المنصات الرقمية الكبرى، تفرض هذه الشركات ثقافة استهلاكية فردانية، تركز على الفرد وتُضعف الروابط الاجتماعية والتقاليد والثقافة المحلية. هذه الشركات لا تقدم فقط ترفيهًا أو خدمات تواصل، بل هي أدوات لبث رسائل وسرديات تعزز الرأسمالية الليبرالية، وتُروّج لقيم تتماشى مع مصالح الغرب ومشروع الهيمنة.
وعبر هذه الشركات المنتشرة حول العالم، توظف الصهيونية الرأسمالية كأداة هيمنة ناعمة، حيث تفرض نماذج اقتصادية وثقافية وسياسية تخدم مصالحها، وتُبعد أو تحارب أي نماذج أو مشاريع تهدد هذه الهيمنة. بالتالي، هناك تلازم بين صعود الرأسمالية النيوليبرالية وانتشار النفوذ الصهيوني، بحيث يعملان معًا لتشكيل نظام عالمي مركب يُنتج التبعية ويحد من استقلالية الدول والشعوب، خاصة في العالم العربي.
باختصار، تحكم الرأسمالية عالمنا لصالح مشاريع النفوذ الصهيوني، فتوظف الشعارات البراقة مثل الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة كأدوات لفرض هيمنتها على البشرية جمعاء. ولا يمكن إغفال الدور المحوري للإعلام الذي مهّد لهذا النظام وجعل من النموذج الغربي للحياة المثال الأسمى والوحيد، وما نراه اليوم في العالم العربي من تآكل للسيادة، وتفاقم للفقر، وتفكيك للهوية الوطنية، ليس إلا نتاجًا مباشرًا لهذا النظام الذي يتحكم فيه تحالف معقد من الشركات الكبرى والنفوذ السياسي الذي لا يتوقف عند حدود الدول.
وفي مواجهة ذلك، نحن مطالبون باستيعاب الحقيقة كما هي، بعيدًا عن ما يروج له الإعلام والسياسة، وأن ندرك أننا أمام احتلال متكامل ينهب الثروات ويقمع الشعوب ويعيد تشكيل هويتها الثقافية بهدف تدجينها. فلا مجال لأي إصلاحات إلا برفض الهيمنة الغربية جملة وتفصيلاً، والعودة إلى قيمنا الإسلامية الأصيلة التي من شأنها أن تنهي كل أشكال الاستعباد الأمريكى للمنطقة والعالم أجمع.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب