"وأُشْرِبُوا في قلوبهم العِجْلَ بكفرهم"
السياسية || محمد محسن الجوهري*
هناك تشابه كبير للغاية بين قصتي نبي الله هارون وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام، لدرجة التطابق في الأفعال وردود الأفعال، ولذلك اختار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلك المقارنة بينهما عندما قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى). وهذا مما يؤكد أنه لا ينطق أبداً عن الهوى، بخلاف ما يُروَّج له من قِبَل دعاة العقيدة الوهابية المنحرفة من أنه كان يُخطئ فيصححه بعض الصحابة.
وكما هو ثابت بالنص القرآني، فإن موقف بني إسرائيل من ولاية هارون عليهم، رغم أنهم قد سمعوا موسى عليه السلام وهو يقول: "وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين"، إلا أنهم قدَّموا غير هارون على هارون، فكانت النتيجة أن عبدوا العجل وكفروا بالله علناً، بعد أن جاءتهم الآيات البيِّنات على يد نبي الله موسى منذ زمن استعبادهم في مصر على يد فرعون وقومه.
في قوله تعالى: "وأُشْرِبُوا في قلوبهم العِجْلَ" يوضح الله سبحانه وتعالى أن الإعراض عن ولاية هارون هو الكفر بعينه، وأن حبهم للعجل وعبادتهم له ليست سوى نتيجة لذلك الكفر. أي أن أساس الانحراف كان بتخليهم عن هارون واستبدالهم السامري به، فكان منه ما كان من إخراج العجل، ومنهم ما كان من الشرك العلني.
وفي واقع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يتبيّن لنا ما هو أسوأ من عبادة العجل، بعد أن أعرضت عن نبيها وخالفت وصيته، لا لجهلٍ بما قال، بل لمعاندة صريحة له ورفض للاصطفاء الإلهي، كما هي سنة الشيطان وحزبه منذ أن رفض السجود لآدم عليه السلام للأسباب نفسها، فكان حظه أن طُرد من الجنة ولُعن وكان من الخاسرين. وهذا هو الحال حتى اليوم للأمة المحمدية.
ولعل أول الكوارث بعد فتنة السقيفة هي فتنة ما يُسمى بحروب الردة، والتي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الأمة بدوافع شبيهة بتلك التي ترفعها تنظيمات مثل داعش والنصرة. ولا غرابة في ذلك، فالمنبع واحد، وخلف كل جريمة من جرائم التكفيريين استدلال على شرعنتها من تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الأمة.
أي أننا لو نجونا من فتنة السقيفة، لكنا على الأقل نجونا من جرائم التكفيريين، ناهيك عن الفتن الأخرى التي شرعنتها، مثل الاختلاف في الدين، والولاء لأهل الكتاب. والأخيرة هي المسؤولة عمّا يحدث اليوم في فلسطين، لأن الصراع مع اليهود والنصارى انتهى برحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت آخر معركة معهم هي فتح خيبر بقيادة الإمام علي عليه السلام.
وكما هو ملاحظ أيضاً، أن الأمة استبدلت مصادر ثقافتها من بعد رسول الله، وجلبت أخرى بديلة، أغلبها من كتب بني إسرائيل، فكانت النتيجة أن بين أيدينا عقائد تُفرّق المسلمين وتُكفّرهم وتُبيح قتلهم، بعد أن حلّ حاخامات بني إسرائيل، من أمثال كعب الأحبار وهب بن منبه، محلّ دعاة الهدى من آل رسول الله.
وصدق رسول الله (عليه وآله الصلاة والسلام) عندما حذّر أصحابه من أنهم سيحذون حذو بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، وكانت البداية برفض الإمام علي كما فعل بنو إسرائيل برفضهم لهارون عليهما السلام، قبل أن تتوالى الكوارث حتى صارت أمة محمد تحت رحمة من ضُربت عليهم الذلة والمسكنة في مفارقة عجيبة بين حالهم اليوم وحالهم يوم كان الرسول بين ظهرانيهم.
ومن المفارقات العجيبة أيضاً أن كتب بني إسرائيل، في التوراة المُزوّرة، وتحديداً في سِفر الخروج، تذكر القصة باسم "عجل الذهب"، حيث يُنسب صنع العجل إلى هارون بناءً على طلب بني إسرائيل أثناء غياب موسى على جبل سيناء. هذا العجل كان مصنوعاً من الحلي الذهبية التي جمعها هارون من الشعب، وصهرها في قالب صنع منه العجل ليعبده بنو إسرائيل. ومثل هذا الكلام لا يختلف عن قول بني أمية ورُواتهم بأن الإمام علي قبل بفتنة السقيفة، ولو أنه فعل، لكان شريكاً في الدماء والمجازر التي أعقبتها باسم الردة، وبما تعانيه الأمة من محن وكوارث عبر تاريخها حتى اليوم، بعد أن أدَّت تلك الفتنة إلى أن يستعبدنا بني إسرائيل رغم ما هم عليه من الخوف والذلة.
إن ولاية الإمام علي عليه السلام تصنع رجالاً من أمثال علي نفسه، يرفضون الخضوع لغير الله، ويرون في اليهود والنصارى أعداءً لله ورسوله، ويرفضون ولايتهم، بل يهتفون بالموت لهم، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة لتحرير المسلمين من ربق العبودية لأهل الكتاب. وما كنا لنرى العجل ترامب يبتز حكام العرب، ويأخذ منهم الجزية، ويكيل لهم الشتائم والإهانات، رغم ما هم عليه من وضع وخنوع له ولمن هم على شاكلته.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب