إسلام بلا ولاية... انتماء ناقص وهوية مشوهة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
لم تكن العلاقة بين اليمن والإمام علي بن أبي طالب علاقة عابرة، ولا مجرد موقف ديني نشأ في أعقاب خطبة غدير خم، بل هي صيرورة تاريخية امتزجت فيها العقيدة بالهوية، والولاء بالكرامة، حتى غدت الولاية جزءًا من البنية النفسية والثقافية والسياسية لليماني الأصيل. فحين قال النبي: "من كنت مولاه، فهذا علي مولاه"، كان يُرسي مبدأ تتجاوز دلالاته حدود اللحظة إلى مشروع حضاري ممتد، تلقتْه قلوب اليمنيين بصدق، لأن إيمانهم بالإسلام لم ينفصل منذ البدء عن محبتهم لأهل البيت، وارتبطت ولادتهم الروحية كمجتمع مسلم بولائهم لوصيّ النبي ووارث علمه.
تاريخيًا، مثّلت الولاية للإمام علي عند اليمنيين ليس فقط اختيارًا عقديًا، بل انتماءً لخط تحرري تحمله أسماء كبرى في ذاكرة الأمة: عمار بن ياسر، المقداد بن الأسود، مالك الأشتر، وغيرهم من رجال ثبتوا على العهد حين استحالت الخلافة إلى سلطة قرشية مستبدة. وقد كان اليمن في هذه المعادلة الجغرافيا الوحيدة التي احتضنت مشروع آل البيت، ومنه خرجت طلائع المجاهدين الذين رأوا في ولاية علي وعدًا بالخلاص، لا من الجور السياسي فحسب، بل من انحطاط الإنسان إلى عبد للطغاة.
لكن الوجه الآخر من التاريخ اليمني يُظهر ما آلت إليه البلاد حين ابتعدت عن هذا المسار. إذ سرعان ما ينكفئ دورها وتُستخدم كقوة هامشية في مشاريع الغلبة الأمويّة والعباسية، أو في وظائف المرتزقة في بلاط السلاطين المعاصرين. هكذا انقسمت الهوية اليمنية على مفترق وجودي: إما خط الكرامة المرتبط بالإمام علي، أو درب التبعية الذي يسلكه من ارتضوا أن يكونوا أدوات في أيدي المشاريع الإقليمية المعادية، كما هو الحال اليوم في خنادق الرياض وأبو ظبي.
ليس هذا الانقسام سردية لتمجيد الذات ومذمة الآخر فحسب، بل هو قراءة لخيارات اليمن المعاصرة في ضوء الصراع الإقليمي والدولي. فمن يقرأ تحولات المشهد اليمني منذ ثورة 21 سبتمبر، وما تلاها من عدوان كوني بقيادة السعودية، يدرك أن البعد العقائدي في الاصطفاف ليس تفصيلًا ثانويًا، بل هو قلب المعركة. فأن تحمل راية الولاية اليوم، في سياق عداء وجودي من الصهيونية العالمية والوهابية الإقليمية، معناه أن تتموضع في قلب الصراع بين مشروعين: أحدهما قائم على التحرر والسيادة، والآخر على الاستتباع والتجزئة.
لهذا لم تكن الانتصارات التي تحققت في مواجهة العدوان مجرد إنجازات عسكرية، بل هي أيضًا نتائج لرؤية متماسكة تعيد تعريف العلاقة بالله والتاريخ والناس. فالإيمان بوليّ الله كما في الثقافة القرآنية، ليس عبادة شعائرية، بل التزام بمعايير للحق والعدل لا تقبل أنصاف المواقف. وعيد الولاية ليس احتفالًا طقوسيًا بقدر ما هو تجديد بيعة للمشروع، وإعلان موقف مبدئي بأننا لا نعترف بإسلام منزوع من علي، ولا بدين يفصل بين الرسالة وامتدادها في آل البيت.
وفي مواجهة هذا المشروع، يبرز القلق الإسرائيلي والغربي من الولاية، ليس لسبب ديني بحت، بل لأنهم يرون فيها بوابة لصياغة هوية مقاومة تتجاوز الحدود القطرية، وتوحّد الشعوب على أساس ديني ـ أخلاقي غير قابل للترويض. ولهذا استُهدفت التجربة اليمنية منذ نشأتها؛ بالحرب المباشرة، وبالتشويه الإعلامي، وبتأجيج الفرق المنحرفة كالوهابية والإخوان، الذين بُني خطابهم العقدي أساسًا على العداء لآل البيت، بما يخدم أهدافًا استعمارية قديمة وجديدة.
اللافت أن تلك التيارات – رغم ثروتها وعددها وامتداداتها – عجزت عن حسم المعركة لصالحها، إذ سرعان ما تكشف أن الباطل متآكل من داخله، وأن أي مشروع يعادي أهل البيت لا يُنتج إلا الخيانة. والشواهد المعاصرة، من سقوط المرتزقة السياسي والأخلاقي، إلى خذلانهم لفلسطين، تقف دليلاً على طبيعة الخيار الذي اتخذوه.
لهذا فإن المعركة ليست فقط جبهة تقليدية بين شمال وجنوب أو شرق وغرب، بل هي معركة هوية كبرى، تتواجه فيها قيم الولاية والكرامة مع ثقافة الارتزاق والانبطاح. وبهذا المعنى، فإن احتفاء اليمنيين بعيد الغدير هو تموضع سياسي بامتياز، يحمل رسالة للعالم: أن اليمن اختار أن يكون مع علي، وأن عليًّا لا يزال الحاضر الأكبر في معادلة النصر، لا بوصفه سيرةً من الماضي، بل باعتباره مشروعًا مستقبليًا في مواجهة الهزيمة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب