صواريخ طهران تكتب التاريخ: انكشاف الهيمنة وبداية العالم المتوازن
إلهامي المليجي*
كان المشهد كاشفًا أكثر من أي بيان أو تصريح: دونالد ترامب، الذي ما انفك يتوعد إيران ويهدد بـ "تغيير النظام"، يظهر فجأة بهيئة رجل يبحث عن مخرج مشرّف من ورطة لا يملك السيطرة على تداعياتها. يقولها صراحة: "نتمنى لإيران السلامة!"، فيما لا تزال الصواريخ الإيرانية تُمطر قلب الكيان الصهيوني حتى اللحظة الأخيرة قبل دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. أما تل أبيب، التي لطالما تغنت بتفوقها العسكري، فقد وجدت نفسها تلتزم بالهدنة من طرف واحد، صامتة أمام مشهد الرد الإيراني الهادئ والواثق.
ما جرى لم يكن مجرّد تبادل نار أو تسوية مرحلية. لقد شهدنا لحظة نادرة تتقاطع فيها الجغرافيا مع التاريخ: انكشاف مزدوج لأركان الهيمنة الأمريكية والصهيونية، وتثبيتٌ لصعود معسكر جديد يفرض شروطه على الميدان لا على الورق؛ فبينما كانت واشنطن تراهن على كسر الإرادة، فوجئت بإيران تمتص الضربة وترد بفعالية محسوبة، وبمحور مقاومة لا يرتجف، بل ينسّق، ويضرب، ثم يفاوض من موقع الندّ.
من هذه اللحظة بالذات، لا يمكن قراءة العالم بالنظارات القديمة نفسها. من هذه اللحظة، يمكن أن نقول: ولّى زمن الإمبراطورية المنفردة، وبدأ زمن التعددية السيادية.
انكشاف الغطرسة
منذ أسابيع، كان الخطاب الأمريكي والصهيوني يفيض بالغطرسة. واشنطن تتحدث عن خيارات مطروحة على الطاولة، وتلوّح بتغيير النظام في طهران، فيما تل أبيب توزع تهديداتها في كل اتجاه، كأنها صاحبة الكلمة الفصل في معادلات الإقليم، لكن الأيام القليلة الماضية أظهرت أن تلك التصريحات كانت أضعف من الواقع، وأن صوت الصواريخ أبلغ من تغريدات القادة.
جاءت الضربة الأمريكية محدودة في أثرها، مثيرة للجدل حتى داخل المؤسسات الأمريكية ذاتها، وعاجزة عن فرض واقع جديد. أما الرد الإيراني، فكان محكومًا بعقل الدولة، لكنه في الوقت ذاته حمل رسالة واضحة: لا يستطيع أحد تجاوز طهران من دون أن يدفع الثمن. وحين أعلنت إسرائيل التزامها بوقف إطلاق النار، لم يكن ذلك ناتجًا من رغبة في التهدئة، بل من إدراك مؤلم لحجم الخسارة المحتملة إذا استمر التصعيد.
في تلك اللحظة، انكشفت الغطرسة، وتراجع الخصم خطوة إلى الوراء. كانت تلك الخطوة، رغم كل محاولات التجميل الإعلامي، اعترافًا صامتًا بفشل خيار الحسم، وبدء مرحلة جديدة قوامها التوازن لا التفرد، والردع المتبادل لا اليد العليا.
الفعل المحسوب في لحظة الاشتعال
لم يكن الرد الإيراني مجرد فعل ثأري، بل كان درسًا مكتوبًا بدقة في دفتر الحرب الباردة الساخنة، فالصواريخ التي انطلقت نحو مواقع عسكرية إسرائيلية مختارة لم تكن عشوائية ولا عاطفية، بل محكومة بعقل الدولة العميقة، ورسالة مدروسة تقول: إيران لا تُستفز بسهولة، لكنها لا تُضرب دون رد.
ما ميّز الرد الإيراني أنه جاء في توقيت محسوب، وضمن سقف لا يدفع المنطقة إلى الانفجار. وقد أدرك الأمريكيون قبل الإسرائيليين أن طهران لا ترد تحت الضغط، بل تختار لحظتها وتضرب في المكان الذي توجعه دون أن تفتح أبواب التصعيد غير المضبوط.
هذا الرد لم يُربك غرف العمليات فقط، بل بعثر أوراق الخطاب الغربي، فقد أرادت واشنطن اختبار جدية إيران، فإذا بها تتلقى اختبارًا مضادًا لحدود هيبتها. أما ترامب، الذي هدّد ثم تمنّى السلامة، فقد بدا كمن تراجع مضطرًا بعد أن شعر بأن اللعبة على وشك أن تنفلت من يده.
بين التراجع البنيوي والاستعداد الكامن
لم يكن محور المقاومة بمنأى عن التحولات الجارية في السنوات الأخيرة، فقد تلقى ضربات موجعة على أكثر من جبهة، كان أبرزها فقدان حزب الله لعدد من أبرز قادته، وفي مقدمتهم قائده الفذ، ما ألقى بظلاله على فاعليته العسكرية والسياسية. ومع سقوط نظام بشار الأسد وخروج سورية فعليًا من معادلات التأثير، بدا المشهد وكأن المحور يتآكل، ولم يتبقَّ فيه سوى حركة أنصار الله التي تقاتل على جبهة اليمن، والمقاومة العراقية التي تحاول استعادة تموضعها.
ومع ذلك، فإن ما كشفت عنه الساعات الحرجة بعد الضربة الأمريكية، هو أن المحور، رغم تراجعه النسبي، ما زال يملك ما يكفي من الجاهزية والخبرة ليُبقي حضوره مُربكًا، فقد توقّع كثيرون أن تتدخّل بغداد أو بيروت عسكريًا لحظة شعورها بخطر داهم على طهران، لأنهم يدركون أن تحييد إيران - إن حدث - يعني نهاية المشروع بأكمله.
صحيح أن القرار لم يُتخذ بالتورط المباشر، لكن مجرّد بقاء المحور في وضع الاستعداد وإبقاء جبهاته مفتوحة، ولو بالنار الرمزية، أعطى الانطباع بأن الرد لن يكون إيرانيًا فقط، بل سيكون إقليميًا إذا لزم الأمر. لقد استعاد المحور بعض توازنه من بوابة الضرورة، لا الوفرة، ومن منطق الحفاظ على ما تبقى، لا توسيع النفوذ.
حين تقدمت العواصم الإقليمية وتراجعت الكواليس الغربية
في لحظة بدا فيها أن العالم على شفا اشتعال واسع، لم تكن باريس ولا لندن ولا حتى واشنطن هي من تصدّر مشهد الوساطة. من قاد خط التهدئة كانت الدوحة، بعلاقاتها المعقدة مع الجميع، وبقدرتها على التحرك بين خطوط النار دون أن تُحترق. لم تكن هذه المرة الأولى التي تؤدي فيها دورًا دبلوماسيًا، لكنها بدت هذه المرة كأنها تملأ فراغًا تركته العواصم الغربية، لا تشاركه فقط.
التحوّل لم يكن في الأدوار فقط، بل في المعاني. أن تكون دولة إقليمية، غير مصنّفة ضمن «اللاعبين الكبار»، هي من يقنع ترامب بالصمت، ومن يقرّب وجهات النظر بين طهران وتل أبيب، فهذا إعلان ضمني أن مركز الثقل الدولي يتحرك، وأنه لم يعد حكرًا على من يملك مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن.
لقد كشف وقف إطلاق النار، بكل هشاشته، عن لحظة انتقالية؛ لحظة تدرك فيها واشنطن أنها لا تملي الشروط وحدها، وتفهم فيها العواصم الأخرى — من أنقرة إلى الدوحة، ومن القاهرة إلى مسقط — أن زمن الوسيط الأمريكي الأوحد قد انتهى، أو على الأقل لم يعد كافيًا.
ملامح النظام الذي يُولد من النار
حين تتراجع الإمبراطورية، لا يعني ذلك أن بديلاً جاهزًا يقف عند الباب، بل أن العالم يدخل طور التحوّل، وهذا تمامًا ما نعيشه الآن: لا نظام جديد رُسم في المؤتمرات، ولا شرق ينهض ليملأ فراغ الغرب، بل عالم يتشكل عبر التوازنات، لا الغلبة؛ عبر الردع المتبادل، لا التفوق المطلق.
لقد أظهرت إيران - ومعها القوى الإقليمية الصاعدة - أن الضربة لا تقتل ما لم تُسند باستراتيجية شاملة، وأن الرد لا يحتاج إلى قنابل نووية كي يُحدث فرقًا. في مقابل ذلك، بدت واشنطن عاجزة عن فرض إرادتها، وتل أبيب مرتبكة أمام محدودية القوة، وأوروبا غائبة في لحظة كانت تحتاجها لتثبت أنها ليست مجرد تابع.
هذا العالم الجديد لا تحكمه شعارات الديمقراطية الغربية، ولا ينظّمه اقتصاد السوق وحده، بل تصوغه معادلات أكثر واقعية: مَن يملك الإرادة، والقدرة على الصمود، والشرعية في عيون شعوبه. إنه عالم لا يُدار بالعسكرة، بل يُولد من النار، من التصدعات، من فشل النماذج القديمة، وبحث الشعوب عن معنى جديد للكرامة والسيادة.
التاريخ يُكتب من حيث لا ينتظره أحد
ليس سهلاً أن تعترف إمبراطورية بقرب أفولها، ولا أن يتراجع كيان احتلال عن غطرسته دون أن يجرؤ على التصريح بذلك، لكن الأفعال دومًا أصدق من الأقوال، فما جرى لم يكن مجرّد مناوشة، بل لحظة مفصلية في مسار التحولات الكبرى: إيران صمدت، وردّت، وفرضت حضورها كرقم لا يمكن تجاوزه في المعادلة. أما محور المقاومة، فرغم ما أصابه من إنهاك وفقدان، لم يُقصَ من المشهد، بل أكد أنه حين تشتد الأخطار، يعود إلى الواجهة كعامل ردع حاضر، وإن بصوت خافت.
في المقابل، ارتبك الخصم وتراجع، لا لأن موازين القوة انقلبت فجأة، بل لأن مَن راهنوا على الحسم أدركوا - ولو متأخرين - أن في هذه الأرض من لا يُقهر، لا بضربة استباقية ولا بعقوبة اقتصادية.
هكذا، لا تُكتب الفصول الحاسمة في البيت الأبيض، ولا تُحسم في الكنيست، ولا تُخطط في دهاليز مراكز التفكير الغربية، بل تُصاغ على الأرض، حيث تقاوم الشعوب بالكلمة والصاروخ، بالعقل والانتماء.
التاريخ الآن يعيد ترتيب نفسه، وهذه المرة، لا تُكتب الرواية من واشنطن… بل من الشرق، من حيث ظنّوا أن لا أحد يكتب.
* المقال نقل من الميادين نت ويعبر عن رأي الكاتب