خالد بركات*

في لحظةٍ تاريخيّةٍ تتسارع فيها المواجهة بين قوى المقاومة والمعسكرِ الصهيونيّ الأمريكيّ، تظلّ الأرض السوريّة المحتلّة، وفي مقدّمتها الجولان، واحدةً من الجبهات المنسيّة والمسكوت عنها في مشهد المقاومة العربيّة الشاملة. وكأنّ الجولان، وكلّ شبرٍ دنّسه العدوّ الصهيونيّ في سوريا، قد أُخرج عمدًا من الصراع ومعادلة التحرير، أو أُسقط من الوعيِ الجمعيّ، الشعبيّ والرسميّ على حد سواء.

ومنذ حزيران 1967، استولى العدوّ على الجولان، وأمعن في نهبه وتهويده، وتحويله إلى مستوطنات وقواعد عسكريّة ومنطقة نفوذ صهيوني مباشر. ولم يكتف بذلك، بل حوّله إلى منصّة اعتداءٍ دائمٍ على الأرض السوريّة وعموم المنطقة، معتمدًا على تواطؤٍ دوليّ، وصمتٍ رسميٍّ عربيّ، وتراجعٍ في إرادة المواجهة الفعليّة. هذا الاحتلال الصهيونيّ لم يتوقّف بعد انهيار نظام البعث في دمشق، بل تمدّد سياسيًّا وعسكريًّا ليشمل قصفًا منتظمًا على العمق السوري، واستباحةً متكرّرةً للأجواء والأرض السوريّة.

لقد سقط النظام السابق، ولم يعُد موجودًا إلّا في الذاكرة السياسيّة. أمّا النظام القائم في سوريا اليوم، فيقوم على إعادة التموضع ضمن معادلاتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ هدفها تثبيت السلطة الجديدة في دمشق بأيّ ثمن، ولو كان على حساب الأرض والسيادة الوطنيّة. إنّه نظامٌ يتقاطع مع معسكر التطبيع والعجز في الوطن العربيّ، ويصمت على القصف الصهيونيّ المتكرّر، ويتخلّى عن الأرض المحتلّة باسم "الواقعيّة"، ويخوض معارك وهميّة تزيد من أزمة السوريّين، ولا تستهدف العدوّ التاريخي: "إسرائيل"، بل تُقزِّمُ الدورَ السوريَّ في المنطقة والإقليم.

وفي ظلّ هذا الواقع المتردّي، تتسارع عمليّات تقسيم سوريا بين قوى إقليميّة ودوليّة تستغلّ ضعفَ الدولةِ السوريّة من جهة، وانتظارَ السوريّين للحلول "السحريّة" القادمة من الخارج من جهةٍ أخرى.

تلعبُ تركيا دورًا احتلاليًّا مباشرًا في الشمال السوريّ، مستغلّةً الفوضى لإقامة مناطق نفوذ لها. بينما يُواصل الاحتلال الصهيونيُّ استباحةَ الجولان والجنوب السوريّ باعتباره امتدادًا لمشروعه التوسّعيّ. إلى جانب ذلك، تستثمر دولُ الخليج، من خلال أذرعها السياسيّة والماليّة والإعلاميّة، في تعميق الانقسامات الداخليّة، ودعم مشاريع التجزئة تحت مسمّيات ويافطات متعدّدة، ما يُكرّس حالةَ التفكّك والتقسيم الجغرافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في البلاد، والذي لا يُشكّل تهديدًا لوحدة سوريا وحسب، بل هو أيضًا جزءٌ من مخطّط أوسع، برعاية الولايات المتّحدة والقوى الغربيّة، يرمي إلى تدمير النسيج الوطنيّ السوريّ لعقودٍ من الزمن. من هنا، فإنّ مواجهةَ الاحتلال الإسرائيليّ في الجولان والأرض السوريّة المحتلّة تصبحُ ضرورةً وطنيّةً مركزيّةً لحماية الأرض والهويّة من خطر التجزئة والتفتيت.

الاحتلال الصهيونيّ للأرض السوريّة لا يقلّ بشاعةً عن احتلاله لفلسطين، بل هو امتدادٌ له، وجزءٌ من مشروعٍ استعماريّ شامل يستهدف تفكيكَ المشرق العربيّ وإخضاع شعوبه. ومع ذلك، تُستثنى الجبهة السوريّة المحتلّة من سرديّات المواجهة، ويُتجاهَلُ ذكرُها في النقاشات الداخلية والعامّة، وكأنّها أرضٌ غير قابلةٍ للتحرير، أو كأنّ مهمّةَ تحريرها قد طُويت. ويتحمّل معسكرُ المقاومة في المنطقة مسؤوليّةً أساسيّة في ذلك، إذ يجب النظرُ إلى النظام القائم في دمشق كما نرى نظامَ أوسلو في رام الله.

التناقض الرئيسيّ الحقيقي في سوريا يكمُن بين الجماهير السوريّة والكيانِ الصهيونيّ بوصفه العدوّ الأوّل والوجودي، وليس التناقض الوهمي مع الشعوب أو الدول المجاورة. فطالما ظلّ الاحتلالُ الأجنبي جاثمًا على الأرض السوريّة، يظلّ أيّ حديثٍ عن السيادة الوطنيّة فارغًا من مضمونه، وشكلًا من أشكال الهروب من القضيّة الرئيسيّة: تحرير الأرض.

إنّ خيار المقاومة والتحرير يُعيد البوصلة إلى موضعها الصحيح، ويعيد الشعب السوريَّ إلى ميدان الفعل التاريخيّ كقوّةٍ مركزيّة في معركة الأمّة ضد العدوّ الصهيونيّ. وإذا كان النظام السابق قد فشل في تحرير الأرض المحتلّة، فلا ينبغي أن يكون ذلك مسوّغًا أو مبرّرًا للتقاعس عن القيام بمهمّات التغيير والتحرير، والذهاب إلى الحضن الأمريكيّ الصهيونيّ، وتبرير التطبيع مع العدوّ.

المقاومةُ السوريّة ليست فقط معركةً لاستعادة الأرض والسيادة، بل هي القوّةُ الجامعة التي تُوحّد الشعبَ السوريَّ بكلّ مكوّناته حول هدفٍ مشترك أصيل؛ هي "الصمغُ السياسيّ" الذي يجمع شتات السوريّين. كما أنّ مقاومة الاحتلال تُشكّل القاعدةَ الصلبة لإعادة بناء الوحدة الوطنيّة وتجاوز الانقسامات الطائفيّة والمناطقيّة التي استغلّها الاحتلال وقوى التقسيم. وبالمقاومة الوطنيّة وحدها، تستعيد سوريا مكانتَها كقوّةٍ إقليميّة فاعلة ومؤثّرة في موازين الصراع في المنطقة، وتكون قادرةً على فرضِ معادلاتٍ جديدة، وتُواجه المشروع الصهيوأمريكيّ في المنطقة. ومن يعتبر هذا المسارَ الثوريَّ البديل "مغامرة سياسية"، فليُدرك أنّ الخياراتِ الأخرى تقود إلى انتحارٌ جماعيّ!

مقاومة الاحتلال في الأرض السوريّة ليست خيارًا نخبويًّا أو مسألةً تخصّ جهةً دون أخرى، بل هي مسؤوليّةٌ وطنيّة وقوميّة وثوريّة، ملقاة على عاتق كلّ القوى الشعبيّة والطلابيّة والعمّاليّة والنسائيّة والمناضلين والمثقفين الأحرار، داخل سوريا وخارجها. ولذلك، فإنّ المهامَّ العاجلة اليوم تتلخّص في إحياء وتفعيل جبهة الأرض السوريّة المحتلّة كجبهة مقاومةٍ فعليّة، تشترَط بناء أدواتِ المقاومة بكلّ أشكالها في الجولان وما حوله، وكسرِ حاجزِ الصمت العربيّ والدوليّ، وفضحِ كلّ من يتواطأ مع بقائه، والربطِ بين معركة تحرير الجولان ومعركة تحرير فلسطين، باعتبارهما الشرطَ الأساسيَّ للتحرّر من وهم "السلام" والتسويات، التي لم تسترجع شبرًا، ولم توقف جريمة.

وأخيرًا، بغضّ النظر عن مواقفِ السوريّين وغيرهم من النظام الآفل أو النظام "الجديد"، يبقى الأساسُ هو موقفُ السوريّين من احتلال أجزاءٍ من وطنهم. فالمسألةُ الجوهريّة التي توحّد كلَّ السوريّين هي رفضُ الاحتلالِ بكلّ أشكاله، وضرورةُ وحدتهم خلف جبهةِ المقاومة الوطنيّة السوريّة المنشودة التي تستطيع تحقيقَ الاستقلالِ الناجز والسيادةِ الكاملة. فالمقاومةُ من أجلِ التحرير لا تحتاجُ إذنًا من أحد، بل هي واجبٌ وطنيّ، وحقٌّ أصيلٌ لكلّ السوريّين، أفرادًا وجماعات.

*كاتب فلسطيني
*المسيرة نت