السياسية || محمد محسن الجوهري*

يواصل الكيان الصهيوني استهداف القيادات العسكرية والعلمية الإيرانية في عمليات اغتيال مدروسة تتكرر داخل إيران وخارجها، في إطار حرب ظلّ مفتوحة تهدف إلى إضعاف المشروع النووي الإيراني، وكسر العمود الفقري لمحور المقاومة. وفي مواجهة هذا المسار التصعيدي، لا تبدو إيران في موقع المتفرّج أو العاجز، بل تُعيد ترتيب أدوات الرد ضمن معادلة دقيقة تُوازن بين الردع والتصعيد، وتحافظ على استراتيجيتها طويلة النفس دون الانجرار إلى مواجهة شاملة لم يحن وقتها بعد.

من أبرز هذه الأدوات ما يُعرف بـ"الرد السيبراني"، حيث راكمت إيران قدرات متقدمة في مجال الحرب الإلكترونية، واستطاعت خلال السنوات الماضية تنفيذ عمليات اختراق واسعة النطاق طالت بنى تحتية إسرائيلية كبرى، شملت شبكات مياه وكهرباء، ومنظومات موانئ ومطارات، بل وحتى قطاعات أمنية حساسة. ويُعتبر هذا النوع من الرد انتقامًا ذكيًا، لا يُسيل الدماء، لكنه يضرب العمق الإسرائيلي ويُربك منظومته التكنولوجية ويُحدث أثرًا استراتيجيًا عميقًا، خاصة عندما يُنفذ بصمت وتُكشف نتائجه لاحقًا.

وفي سياق أكثر مباشرة، تملك إيران خيار الرد عبر ضربات دقيقة داخل فلسطين المحتلة، إمّا من خلال إطلاق صواريخ ذكية عبر موجات صاروخية كالتي رأيناها مؤرخاً، أو عبر تنشيط خلايا نائمة تنفذ عمليات نوعية ضد مواقع عسكرية أو منشآت أمنية إسرائيلية. وهذا الخيار يحقق معادلة "الرد من القلب"، ويوصل رسالة واضحة بأن أي اغتيال لا يمر بلا ثمن، وأن العمق الإسرائيلي لم يعد خارج دائرة الاستهداف.

أما في الخارج، فقد أثبتت التجارب أن لإيران يدًا طويلة قادرة على العمل بهدوء وفعالية. فمنذ اغتيال القائد قاسم سليماني، وحتى سلسلة اغتيالات العلماء النوويين، ردت طهران في أحيان كثيرة عبر استهداف مصالح إسرائيلية في دول ثالثة. ويمكن أن يشمل هذا النوع من الردود استهداف دبلوماسيين، شخصيات استخباراتية، أو حتى منشآت اقتصادية وأمنية يستخدمها الموساد غطاءً لنشاطاته. ويتميّز هذا الخيار بالمرونة والتكتم، ويُربك تل أبيب دون أن يُجبر طهران على إعلان مسؤوليتها رسميًا، وهو ما يناسب مرحلة "الحرب الرمادية".

ومن الخيارات الأكثر حساسية، اغتيال شخصيات إسرائيلية نوعية، سواء كانت عسكرية أو استخباراتية أو علمية. وهو ردٌّ يحمل طابع "القصاص المباشر"، ويُعيد رسم توازن الرعب بشكل فوري، خاصة إذا طال شخصية بارزة تمثل عمقًا في المشروع الأمني أو النووي الإسرائيلي.

وفي الميدان الداخلي، لا تغفل إيران أبدًا عن الرد الأمني المباشر عبر كشف وتفكيك الشبكات العميلة التي تنفذ هذه الاغتيالات. فغالبًا ما تكون المرحلة الأولى من الرد هي توجيه ضربة استخباراتية تُظهر مدى اختراق الموساد داخل إيران، من خلال القبض على المنفذين والمتعاونين المحليين، وبث اعترافاتهم في وسائل الإعلام، في رسالة مزدوجة: أولًا للجمهور الإيراني بتأكيد السيطرة، وثانيًا للموساد بأن ساحة طهران ليست مفتوحة على مصراعيها، وأن لكل عملية ثمنًا أمنيًا موجعًا.

في المحصلة، لا يُتوقع من إيران أن ترد على كل عملية اغتيال بردّ مماثل وفوري، لكنها معنية بأن تبقي العدو في حالة ارتياب دائم، فلا يشعر بأن ساحة الصراع مفتوحة من طرف واحد. وتراكم هذه الردود، سواء أكانت إلكترونية أو ميدانية أو أمنية، هو ما يصنع الردع الحقيقي، ويجعل من قرار الاغتيال قرارًا مكلفًا واستثنائيًا، لا أداة عادية في يد الكيان. الرد هنا ليس فعلًا انفعاليًا، بل عملية استراتيجية متراكمة، تُبقي اليد الإيرانية حاضرة، والساحة مشتعلة ولو تحت الرماد.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب