السياسية:

في حين يدّعي ترامب أن منشأة فوردو النووية في إيران قد دُمّرت بالكامل خلال العمليات الجوية الأمريكية، فإن شكوكاً واسعةً قد أثيرت داخل الولايات المتحدة بشأن تلك الادعاءات، حيث باتت تصريحاته المتعلقة بإلحاق أضرار جسيمة بإيران موضع تساؤل وريبة.

وبحسب تقييم تقرير استخباراتي أمريكي سري، فإن الهجمات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة على ثلاثة مواقع نووية رئيسية في إيران، لم تتمكن من تدمير تلك المنشآت النووية تحت الأرض، ولم تؤدِ إلا إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني لبضعة أشهر فقط. الوثيقة “بالغة السرية”، التي أعدتها وكالة الاستخبارات الدفاعية ونشرتها وسائل الإعلام الأمريكية، تتناقض مع تصريحات ترامب التي زعم فيها أن منشآت فوردو، ونطنز، وأصفهان قد دُمرت باستخدام مزيج من القنابل الخارقة للتحصينات والقنابل التقليدية. غير أن التقارير الرسمية لا تدعم صحة هذه الادعاءات.

وفي المقابل، رفض ترامب وكبار المسؤولين في إدارته التقارير الاستخباراتية، معتبرين أن تقييم وكالة الاستخبارات الدفاعية مجرد “أخبار زائفة”. وخلال اجتماع لحلف الناتو في لاهاي الأسبوع الماضي، أكد ترامب أنه يعتقد أن البرنامج النووي الإيراني قد تأخر لعقود بسبب الهجمات الأمريكية.

ماذا تقول تقارير وكالة الاستخبارات الدفاعية؟

أشارت التقارير الأولية الصادرة عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية، إلى أن القصف الأمريكي لم يؤدِ إلى القضاء على البرنامج النووي الإيراني، بل عرقل تقدمه لبضعة أشهر فقط.

وقبل الهجوم الإسرائيلي على إيران في الثالث عشر من يونيو، كانت وكالات أمريكية قد حذّرت من أن إيران، في حال قررت العمل على تصنيع سلاح نووي، قد تحتاج إلى حوالي ثلاثة أشهر فقط لتحقيق ذلك. إلا أن تقريراً حديثاً لصحيفة “نيويورك تايمز” نقل عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية تقديرها بأن إيران أصبحت، بعد الضربات الأخيرة على منشآتها النووية، على بُعد أقل من ستة أشهر من تصنيع قنبلة نووية. وبحسب الاستنتاجات الأولية، فإن الهجمات الأمريكية قد أدت إلى سدّ مداخل المنشآت النووية، لكنها لم تدمّر المنشآت الموجودة تحت الأرض.

كما كشف التقرير أن إيران كانت قد نقلت مخزونها من اليورانيوم المخصب قبل وقوع الهجمات، مما حال دون تعرضه للدمار.

لكن ترامب، في تصريح له يوم الأربعاء الماضي، رفض تصديق تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين الذين قالوا إنهم أخرجوا اليورانيوم المخصب من منشأة فوردو النووية. وقال: “أنا على قناعة بأنهم لم يمتلكوا الوقت الكافي لنقل أي شيء، لأن الهجوم الأمريكي كان سريعاً للغاية. لو استغرق الهجوم أسبوعين، ربما كان النقل ممكناً، لكن نقل مواد كهذه في وقت قصير أمر شديد الصعوبة والخطورة.”

وقد كانت شبكة “سي إن إن” أول من نشر تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية، حيث نقلت عن مصادر مجهولة أن تأثير الهجمات الأمريكية على المواقع الثلاثة - فوردو، ونطنز، وأصفهان - كان مقتصراً إلى حد كبير على الهياكل فوق الأرض، التي تعرضت لأضرار جسيمة، بينما لم تتأثر المنشآت تحت الأرض بشكل كبير.

من جهة أخرى، أفاد شخصان مطلعان على تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية لشبكة “سي إن إن” بأن مخزون اليورانيوم المخصب لإيران لم يُدمر، وأن أجهزة الطرد المركزي بقيت سليمةً إلى حد كبير.

وأوضحت تحليلات قدّمها خبراء لوكالة “رويترز” أن تقييم حجم الضرر بناءً على صور الأقمار الصناعية، قد لا يكشف مدى الأضرار التي لحقت بمنشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم، نظراً لأن المنشأة تقع تحت سطح الأرض، بعيداً عن أنظار الأقمار الصناعية.

كيف هاجمت الولايات المتحدة منشأتي فوردو ونطنز؟

منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم تُعدّ من أكثر المنشآت النووية الإيرانية تحصيناً، حيث تشير التقارير إلى أنها مدفونة على عمق مئات الأمتار في قلب جبال شمال غرب إيران. أما نطنز، فهي أكبر وأهم مجمع لتخصيب اليورانيوم في البلاد، وتحتوي على قاعات ضخمة تضمّ آلاف أجهزة الطرد المركزي، بعضها يقع تحت الأرض. في المقابل، تشكّل أصفهان مركزاً رئيسياً للبحث والإنتاج النووي، حيث تضمّ منشآت لتحويل اليورانيوم ومصانع لإنتاج الوقود النووي.

وفقاً لما ادّعاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قامت القوات الأمريكية بإطلاق 14 قنبلة خارقة للتحصينات، وزن كل واحدة منها 30,000 رطل (13,000 كيلوغرام)، في الوقت الذي نسقت فيه غواصات البحرية الأمريكية هجمات صاروخية باستخدام صواريخ كروز على منشأتي نطنز وأصفهان.

كما أكدت وزارة الدفاع الأمريكية أن الهجوم استخدم فيه القنبلة النفاثة العملاقة GBU-57 (MOP)، وهي أقوى قنبلة خارقة للتحصينات في الترسانة العسكرية الأمريكية، بوزن يبلغ نحو 13,000 كيلوغرام (30,000 رطل).

تفنيد الادعاءات الأمريكية من مصادر أخرى

على الجانب الآخر، وبعد نشر التقييم الأولي لوكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية عبر شبكة CNN وصحيفة نيويورك تايمز الذي أفاد بأن منشأة فوردو النووية لم تُدمّر، أصدرت وكالة أسوشيتد برس تقريراً بناءً على معلومات استخباراتية أمريكية، أكدت فيه أن الهجمات الأمريكية لم تُلحق ضرراً كبيراً بالبرنامج النووي الإيراني، بل لم تؤدِ إلا إلى تأجيله لبضعة أشهر فقط.

أما صحيفة وول ستريت جورنال، فقد استندت إلى تقارير استخباراتية أولية لتؤكد أن الهجمات الأمريكية لم تحقق سوى تأخير بسيط للبرنامج النووي الإيراني، لا يتجاوز بضعة أشهر.

وفي السياق ذاته، ذكرت القناة 13 الإسرائيلية أن مصادر صهيونية أفادت لشبكة ABC بأن المراجعات الأولية، أظهرت أن نتائج الهجوم الأمريكي على منشأة فوردو النووية الإيرانية لم تكن مُرضيةً.

هل يكذب ترامب؟

في ظل تفنيد العديد من المصادر الأمريكية، بل وحتى الإسرائيلية، لمزاعم دونالد ترامب بشأن تدمير منشأة فوردو النووية بشكل كامل، يثار التساؤل: لماذا يصر ترامب على ادعاءاته حول القضاء التام على البرنامج النووي الإيراني؟

حتى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، خرج في تصريح حديث ليؤكد أن إيران بإمكانها استئناف تخصيب اليورانيوم خلال بضعة أشهر، وهو تصريح يتناقض تماماً مع ادعاءات ترامب بشأن تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل. فما الذي يدفع ترامب إلى الإصرار على هذه الرواية؟

لقد أظهر ترامب مراراً وتكراراً حرصه على تصوير نفسه كصاحب إنجازات عظيمة. فالهجمات الجوية على منشأة فوردو النووية في إيران تمثّل بالنسبة له “إنجازاً كبيراً”، ومن الطبيعي أن يواجه أي تقرير أو تحليل يقلل من حجم هذا الإنجاز بمقاومة شديدة. طوال فترة رئاسته، حرص ترامب على صياغة صورة تعكس “عظمة شخصيته” و"جلال قيادته"، حيث يسعى لتقديم نفسه كزعيم شجاع، استثنائي، وقوي لا مثيل له. لذا، فإن أي معلومات تتعارض مع هذه الرواية لن تلقى قبولاً لديه، بل سيعمل على رفضها والتشكيك فيها.

من زاوية أخرى، قد يكون ترامب يسعى لتجنب الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مكلفة جديدة مع إيران، فهو لا يرغب في الدخول في حرب طويلة الأمد غير مجدية. ومن هنا، فإن الرئيس الأمريكي يعتمد على ادعاء تحقيق أهدافه عبر الهجمات الجوية على المنشآت النووية الإيرانية، بما فيها تدمير القدرة النووية لإيران، ليغلق الباب أمام أي ذريعة قد تؤدي إلى تجدد الصراع. فهو يدرك أن أي دليل يُظهر قدرة إيران على استئناف برنامجها النووي بعد الهجمات الجوية يفتح باب التساؤل: هل ينبغي على الولايات المتحدة شنّ هجوم عسكري جديد للقضاء على البرنامج النووي الإيراني؟ وهل يجب أن تستمر في استهداف قدرات إيران بهجمات إضافية؟

مثل هذه الأسئلة قد تجرّ الولايات المتحدة إلى حقبة من “شبه الحرب” مع إيران تمتد لسنوات، وهو أمر لا يريده ترامب، لأنه يحمل في طياته خطر تصعيد المواجهة إلى صراع أوسع نطاقاً. كما أن ذلك قد يؤدي إلى زعزعة قاعدة دعمه داخل الحركات الانعزالية في الولايات المتحدة، التي لطالما طالبت بتجنب التورط في حروب جديدة بالشرق الأوسط، أو اتخاذ إجراءات عسكرية مكلفة في دول أخرى. فالحرب مع إيران تتعارض مع تطلعات مؤيديه التقليديين، الذين يرون في سياسة الابتعاد عن الصراعات الخارجية جزءاً من هوية ترامب السياسية.

في تعليق نشره ستيفن كالينسون على شبكة CNN، يذهب إلى أن السؤال الجوهري هو: هل تمكنت القنابل الخارقة للتحصينات، التي استخدمت لأول مرة ضد إيران، من اختراق طبقات الصخور والإسمنت المدفونة تحت مئات الأقدام والوصول إلى منشأة فوردو لتدمير أجهزة الطرد المركزي التي تعمل على تخصيب اليورانيوم؟ أم أن تأثيرها كان محدوداً؟

لكن السؤال الأهم الذي يطرحه كالينسون هو: هل يقوم ترامب فعلاً بمهامه كرئيس ملتزم بمسؤولياته، أم أنه مجرد زعيم يبحث عن الأضواء والإثارة؟

* المقادة نقلت حرفيا من موقع الوقت الإخباري