زيد بن علي.. صوت الحق في زمن الظلم والانحراف
السياسية || محمد محسن الجوهري*
حين تطل علينا ذكرى استشهاد الإمام زيد بن علي عليه السلام في الخامس والعشرين من محرم، فإننا لا نُحيي تاريخًا مدفونًا في سرديات الماضي، بل نستدعي لحظة وعي مفصلية اختار فيها أحد ورثة النبوة أن يتحول إلى صوتٍ نابض في وجه الصمت، وأن يُجسّد المعنى في فعل، والمبدأ في تضحية. فزيد لم يكن رجل صدامٍ مع سلطة فحسب، بل حاملُ قلقٍ نبوي أمام انحراف الزمان، ومترجمٌ صادقٌ لصوت الحق في لحظة كاد فيها الباطل أن يتحول إلى قانونٍ دائم.
لقد كان خروج زيد، عليه السلام، فعلاً وجوديًا في وجه تحريفٍ ممنهج أراد تحويل الإسلام من رسالة تحريرية كونية إلى أداة سلطوية طائفية، تخدم نظامًا أمويًا لم يتورع عن التحالف مع بقايا الجاهلية وأحبار اليهود، من أجل صياغة إسلامٍ مشوه، تقطعه المذاهب وتُدجّنه السلطة ويُفخخه الانقسام.
ففي ظل الحكم الأموي، لم يكن الانحراف مجرد انحراف سياسي، بل مشروعًا متكاملًا لهندسة العقل المسلم، يُستعان فيه بالفقهاء المأجورين، وبالتراث التأويلي الموجَّه، لخلق مزيجٍ مموَّه من الدين والمُلك، من الشريعة والمصالح، حتى غدت العقيدة نفسها رهينة التأويل السلطوي، وأضحى الخلاف المذهبي مصيدة تاريخية وُضعت بعناية لتفتيت الأمة، تمهيدًا لتحويلها من أمة الرسالة إلى شعوبٍ تتنازع الهويات، وتُسلِّم أمرها للعدو.
في هذا السياق التاريخي المأزوم، يبرز دور آل بيت النبوة، لا بوصفهم طبقة دينية، بل كحَمَلة أمانة الإصلاح، وورثة المسؤولية الأخلاقية الكبرى في حفظ جوهر الإسلام، ولذلك لم يكن خروج الإمام زيد ثورة على مستوى الحدث فقط، بل على مستوى الوعي الحضاري، إذ أعاد تعريف الانتماء الإسلامي بأنه وقوف دائم مع الحق، ولو في وجه الأمة كلها، ما دامت قد انساقت خلف الباطل.
ومثلما كان الحسين من قبل، جسدًا يُذبح في سبيل بقاء المعنى، كان زيدٌ صدىً نقيًا لذلك الصوت الأول: صوت النبوة وهي ترفض أن تُختزل في مذهب أو يُحبس صداها في طائفة. لقد كان الإمام زيد واعيًا بأن الخلاف المذهبي لم يكن وليد اجتهاد حر، بل ثمرة مؤامرة نسجها الأمويون بأدوات يهودية، لضرب وحدة الإسلام من الداخل، فحمَّل علماء الأمة في رسالته التاريخية مسؤولية الانقسام، داعيًا إلى وحدة تستند إلى الوحي لا إلى العصبية، وإلى القرآن لا إلى الولاءات المذهبية.
وفي زمنٍ كزمننا، حيث أصبح الكيان الصهيوني لا يكتفي باحتلال الأرض، بل يشن حربًا شاملة على الوعي والذاكرة والكرامة، تبدو رسالة زيد أكثر راهنية من أي وقت مضى. إننا لا نحيي ذكراه لنترحم عليه فحسب، بل لنستنطق مشروعه، ونستخلص من روحه الثورية حكمةً في زمن التبعية. فكل من يسوِّغ الطائفية اليوم باسم الزيدية، أو يسقط في شرك الاصطفاف المذهبي، قد خان جوهر ما خرج زيد من أجله.
ولأن المشروع الأموي في تحالفه مع اليهود لم يكن ظرفًا تاريخيًا عابرًا، بل نواة لمشروع تدميري ممتد، فإن خذلان زيد لم يكن خطأً في التقدير، بل كارثة وعيٍ ستتوالى نتائجها حتى نرى الأمة كلها تُقاد إلى الحضيض، ويُنهك جسدها بجراثيم الطائفية، بينما العدو الحقيقي ينهشها دون مقاومة.
أما أولئك الذين يتساءلون عن زيد هذا العصر، فإن الإجابة تفرض نفسها في شخصية الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي الذي جسد بروحه ورؤيته المشروع القرآني ذاته، ومضى على ذات السبيل الذي مهده الإمام زيد والحسين والرسول من قبله، ومعه يمضي السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي في تجديد الوظيفة الرسالية، لا بوصفها صدىً تاريخيًا، بل باعتبارها مشروعًا مفتوحًا للمواجهة الكونية مع الطغيان، والوقوف في وجه آخر نسخ الإفساد اليهودي، الذي وعد الله بنهايته في وعد الآخرة، كما ورد في سورة الإسراء.
وهكذا، فإن زيد ليس ماضٍ يُحتفى به، بل هو سؤال معاصر، يُطرح على كل ضمير حي: هل ستقف حيث وقف زيد؟ أم مع من خذلوه وتركوا الأمة نهبًا للفُرقة والضياع؟
* المقال يعبر عن رأي الكاتب