غزة تفضح حقيقية الغرب المتحضَّر
محمد محسن الجوهري*
لطالما قدّم الغرب نفسه على أنه حارسُ القيم الإنسانية ومهدُ الحضارة الحديثة. وكم تحدّثت عن ذلك حتى النخب المحلية بمبالغة عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان كما لو كانت اختراعاتٍ أوروبية خالصة، ورفعوا شعاراتٍ خلّدتها خطابات الزعماء ومواثيق الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية.
لكنّ كلَّ هذا البريق سرعان ما انطفأ أمام مشاهد الدم والنار في غزة، حين سقطت الأقنعة وتجلّى وجه الحضارة الحقيقي: فهو وجه دموي يبرّر القتل الجماعي ويغضّ الطرف عن الأطفال الممزّقة أجسادهم، بحجة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
ليس خافيًا على أحد أنّ كلّ قذيفةٍ تسقط على غزة تحمل بصمةً غربية — صُنعًا وتمويلًا وتغطيةً سياسية. فصواريخ F-16 الأمريكية، وقنابل GBU البريطانية، ومدافع M109 الأوروبية، كلها تشارك في المذبحة دون أن يرفّ جفنٌ في العواصم التي تملأ الدنيا حديثًا عن السلام وحقوق الإنسان، لقد تحوّل شعار "الدفاع عن النفس" إلى ترخيصٍ مفتوحٍ بالإبادة، وصار القاتل والمموّل والمبرّر شركاء في جريمةٍ واحدة، بينما يكتفي الضمير الغربي بنشر بياناتٍ إنسانيةٍ باهتة أو قوافل غذاءٍ لا تصل إلى أحد.
حين يُقتل مدنيّ في أوروبا، تُعلن الحدادَ الأمم، وتُستنفرُ مؤسساتُ العالم للتنديد بالإرهاب. أمّا حين يُبادُ آلافُ الفلسطينيين في أسبوعٍ واحد، فإنّ "التريّث في الحكم" يصبح لغة الغرب الرسمية، لقد سقطت أخلاق الغرب في امتحان غزة، لأنّ ما فعله لم يكن تواطؤًا عابرًا، بل سياسةً ممنهجة تعيد تعريف مفاهيم الإنسانية وفق مصالحه. فالضحية، في ميزانه، إن لم تكن غربيةً بيضاء، فإنها لا تستحق العدالة، ولا حتى الحزن.
ما يزيد الفاجعة عمقًا هو أن كلّ صوتٍ يندّد بهذه الجرائم يُتّهم تلقائيًا بـ"معاداة السامية"، وكأنّ السامية — في المفهوم الغربي الحديث — تعني الحق الحصري لليهود في ارتكاب الإبادة.
لقد تحوّل هذا المصطلح من أداةٍ لمكافحة الكراهية إلى درعٍ أيديولوجي يحمي الكيان الصهيوني من أيّ مساءلة، ويُسكت كلّ من يجرؤ على وصف الجرائم بأسمائها. وهكذا صارت الحرية التي يتغنّى بها الغرب حكرًا على من يردّد خطابه، لا على من يواجهه بالحقائق، ومن المفارقات المأساوية أنّ القتلة اليوم لا يخرجون من الكهوف ولا يرفعون رايات سوداء، بل يرتدون بزّاتٍ رسمية ويتحدثون بلغة القانون والديمقراطية. يقتلون الأبرياء، ثم يبرّرون القتل على شاشات التلفاز باسم "محاربة الإرهاب".
أيّ حضارةٍ هذه التي تضع القيم تحت أقدام المصالح؟ وأيّ إنسانيةٍ تلك التي تُفرّق بين دمٍ ودم؟ الغرب الذي كان يُبشّر العالمَ بالمدنية عاد اليوم إلى بدائيته، لكن بوسائل أكثر تطورًا وقدرةً على التدمير.
إنّ ما يجري في غزة ليس مأساةً محلية، بل مرآةٌ كاشفةٌ لزيف النظام الدولي بأسره. فهي تختصر العالم الحديث في مشهدٍ واحد: الضحية تحت الركام، والقاتل يطالب بالاحترام، والمجتمع الدولي يكتفي بالتفرّج.
بهذا المعنى، لم تعد غزة مجرد مدينةٍ محاصرة، بل صارت اختبارًا أخلاقيًا للقرن الحادي والعشرين، فشل فيه من ادّعى الحضارة والتقدّم.
فالحضارة الغربية، كما تُمارس اليوم، ليست سوى قشرةٍ براقةٍ تخفي خواءً روحيًا عميقًا. فقد فقدت إنسانيتها يوم اعتبرت أن دم الطفل الفلسطيني أقلّ قيمةً من دم أيّ طفلٍ آخر، ويوم قررت أن الصمت أهون من قول الحقيقة.
وإذا كان معيار التقدّم هو القدرة على القتل دون شعورٍ بالذنب، فإنّ الغرب حقق تفوّقًا لا يُبارى، لكنه فقد بالمقابل حقّه في الحديث عن الأخلاق إلى الأبد.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

