السياسية - تقـــرير :

في خيمةٍ واهنة تتمايل مع الريح على أنقاض بيتٍ دمره العدو الإسرائيلي، تجلس الطفلة "مريم إبراهيم" ذات الاثني عشر عامًا، تحدق في الفراغ بعينين مطفأتين. لا صوت، لا ضحكة، لا حياة. كأنها تركت روحها هناك، في اللحظة التي سقط فيها الصاروخ، وتركت خلفها جسدًا صغيرًا يتشبث بخيوط الألم.

تعيش مريم اليوم بين خوفٍ لا ينتهي ووجعٍ يثقل رأسها الذي فقد جزءًا من جمجمته، فيما تبقى قطعة منه حبيسة في ثلاجة المستشفى، تنتظر إذن عبورٍ لا يأتي… ونافذة نجاةٍ مغلقة منذ شهور.

في السابع والعشرين من يونيو 2024، كانت مريم تلهو مع إخوتها داخل خيمتهم المؤقتة في حي الأمل بمدينة خانيونس، حين باغتتهم غارة صهيونية استهدفت نقطة صغيرة لشحن الهواتف. لم يكن في المكان سوى أصوات الأطفال وضحكاتهم، قبل أن يتحول كل شيء إلى ركام ودماء وصراخ.

ستة شهداء ارتقوا، بينهم نساء وأطفال، وأُصيب 15 آخرون بجروحٍ خطيرة، من بينهم مريم ووالدتها مجدولين.

تقول الأم بصوتٍ متهدجٍ يحبس الدموع لـ صحيفة (فلسطين): "الشظايا اخترقت رأس مريم… لم أكن أصدق أنها ما زالت تتنفس. نقلناها إلى مستشفى ناصر، وهناك أخبرني الأطباء أن حياتها على المحك."

خضعت الطفلة لعملية جراحية دقيقة استمرت ساعات طويلة، انتهت بإزالة الجزء الأمامي من جمجمتها لإيقاف النزيف وإنقاذ حياتها. ومنذ ذلك اليوم، تحفظ ثلاجة المستشفى قطعة من رأسها، بانتظار أن يُسمح لها بالسفر لإعادة زراعتها.

لكن المهلة التي حددها الأطباء — اثنا عشر أسبوعًا فقط — انقضت، دون أن يصدر تصريح سفر واحد. ومع مرور الوقت، بدأت حالتها تتدهور بسرعة. تظهر عليها نوبات تشنج، دوخة مستمرة، وارتفاع حاد في الحرارة، فيما تقف أسرتها عاجزة أمام جدارٍ من الصمت والانتظار.

تقول الأم بحزنٍ عميق: "كل يوم يمر يزيد وجعها. لم تعد تحتمل الألم… هي طفلة فقط، تستحق أن تعيش كبقية أطفال العالم."

في الخيمة، تُخفي مريم رأسها بغطاء صغير وتتحسس الندبة التي تركتها الجراحة. همسًا تقول: "أشعر بألم شديد في رأسي… لا أريد أن يراني أحد. أريد فقط أن أتعالج… أن أعود كما كنت."

لم تعد تمشط شعرها الطويل الذي كان زينتها وافتخارها، قصوه لها في المستشفى بعد الإصابة، ومنذ ذلك اليوم، هجرت المرآة وابتعدت عن ضوء النهار.

تروي أمها بأسى:"كانت تقف أمام المرآة وتزين شعرها وتضحك، اليوم لا تقترب منها. أصبحت خجولة، صامتة، كأنها لم تعد تؤمن بأن الحياة تنتظرها."

في كل مساء، حين يخفت ضوء النهار وتخفت أصوات القصف، تسند مريم رأسها المثقل على يدها الصغيرة، تنظر إلى السماء عبر فتحة الخيمة وتهمس: "هل سأشفى؟ هل سأسافر؟"

لكن لا جواب. فالعالم صامت، والحدود مغلقة، والوقت يمضي تاركًا خلفه طفلة عالقة بين حياةٍ مؤجلة وموتٍ يتربص في كل لحظة.

في غزة، تتشابه القصص وتختلف الأسماء، لكن وجع مريم يختصر وجع جيلٍ بأكمله وُلد في الخيام ونام تحت الدمار. جمجمة الطفلة ما زالت محفوظة في ثلاجة المستشفى، فيما روحها تذوب يومًا بعد يوم داخل خيمة لا تحتمل الحياة. وبين جدرانها الباردة، تواصل مريم صراعها الصامت مع الزمن، بانتظار إذن سفرٍ قد يعيد إليها ما سرقته الحرب: الطفولة، والضحكة، والمرآة التي لم تعد تجرؤ على النظر إليها!.

سبأ