محمد محسن الجوهري*

كثيرًا ما يُقدَّم لبنان في الإعلام العربي والغربي بوصفه نموذجًا فريدًا لـ«التعايش الطائفي» والوحدة الوطنية، وتُستعاد هذه الصورة خصوصًا عند الحديث عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. غير أن هذا الخطاب، عند التمحيص، يبدو أحادي المصدر؛ إذ يصدر في الغالب عن النخب والمرجعيات السياسية والثقافية الإسلامية، فيما يغيب أو يختلف بشكل جذري عند الطرف المسيحي.

فالخطاب الإسلامي السائد يتحدث عن شراكة تاريخية، وعن عيش مشترك، وعن وطن يتسع للجميع بلا تمييز، ويحرص على إظهار المسلمين كجزء أصيل من الكيان اللبناني وهويته. لكن في المقابل، تكشف مواقف سياسية وثقافية مسيحية كثيرة عن نظرة مغايرة تمامًا، تقوم على اعتبار لبنان «وطنًا مسيحيًا» بالأساس، وأن الوجود الإسلامي فيه طارئ أو مفروض بحكم الديموغرافيا والتحولات الإقليمية.

ويكفي التوقف عند الخطاب الإعلامي للقنوات المحسوبة على اليمين المسيحي، وكذلك عند مواقف شخصيات سياسية بارزة كسمير جعجع وأمين الجميل، لفهم عمق التناقض بين خطاب «التعايش» المعلن والوعي السياسي الكامن. ففي هذه المنابر، يتكرر الحديث عن «حماية الوجود المسيحي»، و«الخطر الديموغرافي»، و«اختلال التوازن الوطني»، وهي مفردات تبدو للوهلة الأولى دفاعية، لكنها في جوهرها تفترض أن الوجود الإسلامي مشكلة بنيوية لا شراكة طبيعية.

كما أن توصيف المسلمين في كثير من هذه الخطابات لا يُقدَّم بوصفهم شركاء متساوين في الوطن، بل باعتبارهم كتلة ضاغطة، أو امتدادًا لمحيط «غير لبناني»، أو عنصرًا يُهدد «الهوية الأصلية» للبنان. ويتجلّى ذلك بوضوح في النقاشات المتعلقة بسلاح المقاومة، أو النزوح، أو حتى القوانين الانتخابية، حيث يجري ربط أي مكسب سياسي للمسلمين بفكرة الهيمنة أو الانقلاب على «لبنان الذي نعرفه».

أما خطابات شخصيات مثل سمير جعجع، فتقوم في كثير من الأحيان على استدعاء الذاكرة الحربـية بلغة مُحدَّثة؛ إذ يُعاد إنتاج ثنائية «نحن/هم» بصورة أقل مباشرة، لكن أكثر رسوخًا. ويُصوَّر الصراع السياسي على أنه صراع وجودي، لا خلافًا ديمقراطيًا بين مكوّنات وطن واحد. في حين يذهب خطاب أمين الجميل، رغم مظهره التصالحي أحيانًا، إلى تأكيد فكرة الكيان ذي الخصوصية المسيحية، بما يوحي بأن الآخرين يعيشون فيه بقبول مشروط لا بحق أصيل.

هذا النمط الإعلامي والسياسي لا يدعو صراحة إلى ترحيل المسلمين، لكنه يؤسس ذهنيًا لفكرة أنهم ضيوف دائمون، أو شركاء مؤقتون، وجودهم مقبول ما دام لا يخلّ بالتوازن الذي تريده النخب المسيحية. وهنا تتبدد أسطورة التعايش، ليس بسبب التطرف اللفظي، بل بفعل تراكم خطاب ناعم، مستمر، يُعيد تعريف الوطن على أساس طائفي لا وطني.

وقد تزايدت حدة الخطاب المسيحي المناهض للإسلام بشكل واضح مع تصاعد التمويل الصهيوخليجي لليمين المتطرف اللبناني، وهو تمويل لم يقتصر على الدعم المالي بل امتد إلى التأثير على الخطاب الإعلامي والسياسي. ولم يكن الإعلام السعودي بعيدًا عن هذا المسار، بل تجلى تماهيه التام مع النبرة المسيحية المعادية للإسلام، محوِّلًا خطاب التعايش والوحدة الوطنية إلى واجهة فارغة، بينما تُدار الحملات الإعلامية لتكريس فكرة الخطر الإسلامي الدائم.

هذا الانحياز يكشف عن وحدة الهدف بين الوهابية في لبنان، واليمين المسيحي المحلي: كلاهما يعمل كأداة للفكر الصهيوني، وكلاهما يساهم في إذكاء الصراع الطائفي لخدمة مصالح الكيان. ومن هنا يتضح أن أي تحرك سعودي في لبنان، سواء سياسيًا أو إعلاميًا، لا يهدف إلى تعزيز الاستقرار أو التعايش، بل إلى تأجيج الفتنة الطائفية بين المسلمين، وضمان هيمنة النخب المسيحية على مفاصل الدولة والقرار الوطني.

إن استمرار خرافة التعايش في لبنان هو مجرد وهم سياسي، يهدد مستقبل البلاد واستقرارها، والأصل أن تكون الغلبة للمسلمين لقبولهم بالتعايش ولأن خصومهم لا يقبلون بذلك، وقد جاء التحذير في كتاب الله تعالى: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ". والواقع اللبناني يشهد بصدق النبوءة القرآنية، كما يشهد بأن بصدق غيرها من النبوءات كالتي تتحدث عن الأعراب وكونهم الأشد كفراً ونفاقاً، ويظهر ذلك في التحالف المسيحي الوهابي ضد التيار الإسلامي المعادي للصهيونية، رغم أن ذلك التيار لا يشكل أي خطر على سائر الطوائف في البلاد وخارجها.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب