فهد شاكر أبوراس*

يكشف الوثائقي "صفقة على حساب القضية" عن الخيوط الخفية والصفقات المادية التي شكَّلت مسارًا آخر للقضية الفلسطينية؛ مسارًا يختلف جذريًّا عن الخطاب العلني الرسمي الذي كان يرفع شعارات التضامن والدعم.

لقد عرض الوثائقي لأول مرة مكالمات هاتفية ووثائق تلقي ضوءًا صارخًا على طبيعة التواطؤ الذي مارسته أنظمة عربية تحت مبرّرات سياسية شتَّى.

تكشف هذه الوثائق أن الدعم العربي الرسمي للقضية كان في أحسن أحواله شكليًّا، بل تحوَّل في لحظات الحقيقة الحاسمة إلى عائق أمام صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته.


مكالمة العدوان: تحميل الضحية مسؤولية الجريمة

تجلَّى هذا التحوُّل بوضوح في المكالمة الهاتفية التي جرت بين علي عفاش ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، بعد يوم واحد فقط من العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة.

بادر مشعل إلى الاتصال ردًّا على دعوة عفاش لعقد قمة عربية طارئة، وكان طلبه واضحًا ومُلحًّا: أن تتركز جهود القمة العربية والاتصالات الدولية على هدفين أَسَاسيين هما وقف العدوان فورًا ورفع الحصار الخانق عن غزة.

لكن ردّ عفاش جاء ليحمِّل حركة حماس مسؤوليةَ استمرار المجازر، مُكرّرًا روايةَ الاحتلال ذاتها بأن صواريخ المقاومة هي التي تسببت بالعدوان وتضر بالشعب الفلسطيني، ومُطالبًا بإيقافها دون أي ذكر لرفع الحصار أَو وقف الاعتداءات.

وهو ما يكشف انحيازًا واضحًا للرواية الإسرائيلية وتبنِّيًا لأجندة خارجية تهدف إلى نزع الشرعية عن المقاومة وتجريدها من سياقها الدفاعي الطبيعي.

لقد حاول مشعل في تلك المحادثة تبيانَ الحقيقة والربط المنطقي بين أفعال المقاومة وواقع الحصار الظالم، قائلًا: "بس يا حبيبنا، لا يعقل أن أهل غزة لا يُعطى لهم أمل برفع الحصار!"، وسائلًا: "هل تقبل أن يعيش أهل قطاع غزة تحت الحصار؟"، مؤكّـدًا أن كَيان الاحتلال ومصر تريدان استمرار التهدئة مع استمرار الحصار، وهو ما لا يمكن قبوله.

لكن الخطاب الرسمي العربي، كما يمثله عفاش في هذه المكالمة، كان يرفض فهم هذه المعادلة البسيطة أَو يتعمَّد تجاهلها، بل لجأ إلى التهديد والضغط بإعلان البيت الأبيض عن إعطاء الضوء الأخضر لِكَيان الاحتلال لمواصلة عملياته.

وهو تهديد واجهه مشعل بالثبات على المبدأ قائلًا: "أمريكا لن يخرج منها إلا الظلم والعدوان، نحن لا نتوقع منها خيرًا"، وأكّـد أن رفع الحصار وفتح المعابر، بما فيها معبر رفح، هو الشرط الوحيد لقبول التهدئة من قبل كُـلّ الشعب الفلسطيني.

هذا الموقف يظهر الفجوة الهائلة بين منطقِ المقاومة الذي يربط السلامة والأمن بإنهاء الظلم، وبين منطق الأنظمة المتواطئة التي تريد فرض الاستسلام دون تغيير الواقع.


بيع المواقف: الصفقة السعوديّة وقمة دمشق

يكمُنُ جوهرُ التواطؤ في المكالمة الثانية التي كشفها الوثائقي، والتي جرت بين عفَّاش ومستشاره السياسي عبدالكريم الإرياني في 25 مارس 2008.

فهذه المكالمة لا تترك مجالًا للشك في تحوُّل العلاقات العربية إلى ساحة للمتاجرة والمساومات على حساب القضايا المصيرية.

حيث اعترف صالح فيها باستلامِ مبلغ 300 مليون دولار من ملك السعوديّة عبدالله بن عبدالعزيز مقابل عدم المشاركة في قمة دمشق العربية التي عُقدت في 29 مارس 2008.

وقد وصف صالح القمة بأنها "مؤتمر إيراني وليس عربيًّا" نقلًا عن الملك عبدالله، وقال إن الملك "ضاغط ضغطة جامدة" و"حاقد الصدق"، بينما علَّق الإرياني على استلام المال بقوله: "يستاهل السفر".

هذا الكشف الخطير يعني ببساطة أنَّ الموقفَ العربي الرسمي من القضايا الكبرى لم يكن يُحدّد بالمصلحة العربية أَو بالحق، بل كان يُشترى ويُباع بأموال طائلة.

فقمة دمشق 2008، التي قاطعتها دول مثل السعوديّة ومصر والأردن وأُفرغت من مستوى تمثيلها، لم تكن ضحية خلافات سياسية فحسب، بل كانت أَيْـضًا ضحية صفقات مالية أطاحت بأي مبدأ للوحدة أَو السيادة الوطنية والقومية.


نزع السلاح الروحي والمادي

إن تحليلَ هذه الوقائع لا يترك مجالًا للشك في وجود مشروع متوازٍ يعمل على إفراغ المقاومة من مضمونها.

فبينما كان الخطاب العلني لبعض القادة يتحدث عن "الاتّحاد العربي" وَ"الوحدة العربية" كطريق للسلام، كانت الممارسات الخفية تقوِّض أي جهد حقيقي نحو هذه الوحدة، وتعمل على عزل ودحر أية قوة مقاومة على الأرض.

كما أن ربط عفاش في مكالمته مع مشعل بين تهدئة المقاومة وموقف الرئيس المصري حسني مبارك، يكشف عن تنسيق إقليمي يهدف إلى تحميل الضحية تبعات جريمة المعتدي، وإلى فرض واقع الاستسلام تحت مسمى "الهدوء" أَو "التهدئة"، وهو نفس النهج الذي حاول لاحقًا أن يفرض شروطًا مثل "هدنة طويلة مقابل تجميد السلاح"، مما يؤكّـد استمرارية هذا النهج التفاوضي الذي يسعى إلى نزع سلاح المقاومة روحيًّا وماديًّا قبل تحقيق أي من مطالب الشعب الأَسَاسية.


الخلاصة: حقيقة الشريك الخفي في المأساة

بالنظر إلى المشهد الأوسع، فإن هذه الصفقات والمواقف لم تكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من التواطؤ.

الجامعة العربية ومؤتمرات القمة تحوَّلت إلى مُجَـرّد ديكور بلا روح، بينما يتم في الكواليس صناعة القرارات المصيرية بأموال ووعود وتبعيات.

لذلك، يظهر الوثائقي ومن خلال هذه المكالمات أن المقاومة الفلسطينية لم تواجه عدوان الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا فحسب، بل واجهت أَيْـضًا حربًا خفية من بعض الأنظمة العربية التي استخدمت كُـلّ الأدوات، من الخطاب المزدوج إلى شراء الذمم والمواقف، لإضعافها وإجبارها على الرضوخ.

ومع ذلك، فإن صمودَ غزة وتصميم قيادة المقاومة على ربط أية هُدنة بإنهاء الحصار، يؤكّـد أن منطق الحق والكرامة هو الأقوى.

لقد فضح الوثائقي جزءًا مهمًا من الحقيقة المرة، وهي أن بعض الأنظمة العربية كانت شريكًا في صناعة مآسي الفلسطينيين عبر تحويل قضيتهم من قضية تحرّر إلى ورقة مساومة ووسيلة للابتزاز السياسي والمالي؛ مما يضع أمام الأجيال العربية صورة واضحة عن أعداء مشروع التحرّر الحقيقيين، الذين قد لا يحملون دائمًا وجهًا أجنبيًّا.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت