السياسية || محمد محسن الجوهري*

عام 1982، نشر الصحفي والمحلل الإسرائيلي "أوديد ينون" دراسة بحثية تقترح تفكيك العالم العربي إلى كيانات مناطقية، وقد اعتمدتها قيادة الكيان لاحقًا تحت اسم خطة ينون. وقد مثّلت رؤية فكرية عميقة الجذور في العقل الاستراتيجي الصهيوني، تقوم على فرضية أساسية مفادها أن أمن "إسرائيل" لا يتحقق عبر التفوق العسكري وحده، بل من خلال تفكيك البيئة الإقليمية المحيطة بها إلى كيانات أصغر، متناحرة، وضعيفة مستغلة كل عوامل الاختلاف السياسي والعرقي والمذهبي، وكان الهدف الأول فصل إيران وثورتها الإسلامية عن محيطها العربي والترويج للخطر الإيراني المزعوم على العرب وتوظيفهم نيابة عن "إسرائيل" حتى لا يصل تأثيرها إلى حركات إسلامية مناهضة للكيان في المنطقة.

ركزت الخطة على الدول العربية ذات البنية السكانية المتنوعة طائفيًا وعرقيًا، باعتبارها دولًا "هشة من الداخل"، وأن استمرارها كدول مركزية قوية يشكّل خطرًا استراتيجيًا على "إسرائيل". ومن هنا، تقترح الخطة تفكيك هذه الدول إلى دويلات أو أقاليم قائمة على أسس مذهبية أو إثنية، بما يحوّل الصراع من عربي-إسرائيلي إلى صراعات داخلية عربية-عربية، وذكر ينون نماذج لتفتيت دول بعينها مثل لبنان، العراق، سورية، مصر، والسودان، كونها كنماذج قابلة للتفكيك، حيث رأت الخطة أن التنوع غير المُدار يمكن أن يستثمر إلى أداة صراع دائم.

ولسنوات طويلة، تعامل العرب مع خطة ينون بوصفها مجرد مقال رأي متطرف أو رؤية صحفية لا تعبّر بالضرورة عن سياسات "الكيان". غير أن التحولات التي شهدتها المنطقة منذ مطلع الألفية الثالثة كأحداث سبتمبر وغزو العراق، ثم بشكل أكثر وضوحًا بعد عام 2011، أعادت إحياء النقاش حول الخطة بسبب تشابه الواقع مع ما ورد فيها.

فقد انتقلت الفكرة في الثمانينات من التحليل الإعلامي إلى النقاش داخل دوائر صنع القرار الغربية، وفي مطلع الألفية الثالثة بات مصطلح "إعادة تشكيل الشرق الأوسط" متداولًا، سواء بصيغة "الفوضى الخلاقة" أو "تفكيك الدول الفاشلة"، وهي عناوين مختلفة لمضمون واحد: إضعاف الدولة المركزية.

لم يتم تطبيق خطة ينون عبر تدخل مباشر واحد أو قرار معلن، بل جرى ذلك من خلال تراكم أدوات متعددة عملت بشكل متوازٍ وممنهج، كان أبرزها تغذية الانقسامات الداخلية عبر الخطاب الإعلامي والسياسي بما حوّل الخلافات الطبيعية داخل المجتمعات إلى صراعات بنيوية، ثم تدويل الأزمات المحلية وإخراجها من سياقها الوطني لتصبح ساحات صراع إقليمي ودولي مفتوح، إلى جانب إضعاف الجيوش الوطنية أو تفريغها من دورها السيادي عبر الاستنزاف أو إعادة تعريف مهامها، وصولًا إلى شرعنة الكيانات المفروضة كأمر واقع تحت عناوين إنسانية أو أمنية. ومثل هذه الأدوات لا تحتاج إلى إعلان رسمي عن تبنّي الخطة بقدر ما يكفيها تقاطع مصالح قوى دولية وإقليمية مع نتائجها النهائية، حيث يتحقق الهدف دون الحاجة إلى رفع شعار أو توقيع وثيقة.

خطة ينون لم تكن نبوءة بقدر ما كانت قراءة مبكرة لنقاط الضعف البنيوية في المنطقة، جرى لاحقًا استثمارها سياسيًا وإعلاميًا. والخطر الحقيقي لا يكمن في الوثيقة ذاتها، بل في غياب مشروع عربي جامع قادر على تحصين الأمة، وإدارة التنوع، ومنع تحويل الاختلاف إلى أداة تفكيك. فالأفكار، حين تجد بيئة مناسبة، لا تبقى حبرًا على ورق، بل تتحول إلى وقائع تعيد رسم الجغرافيا والتاريخ معًا.

الغريب في مسار تنفيذ هذه الخطة أنه جرى، إلى حدٍّ كبير، وفق الموجهات ذاتها التي طُرحت نظريًا، لكن عبر أدوات إعلامية تموّلها دول عربية وتملكها علنًا، وإن كانت سياساتها التحريرية تُرسم خارج هذا الإطار. فقد تحوّل الإعلام، لا سيما القنوات العابرة للحدود كالجزيرة وغيرها، إلى ساحة تمهيد للصراع، حيث بدأ كثير من النزاعات في الوطن العربي كنقاشات محتدمة على الشاشات قبل أن تنتقل إلى الشارع. وأسهم هذا الخطاب في إحداث فوضى فكرية واسعة، أعادت إحياء صراعات دفينة كالصراع السني–الشيعي، ودفعت بها إلى الواجهة بوصفها المحرك الرئيسي للأحداث، بل وفي أحيان كثيرة جرى تضخيم هذه الصراعات أو اختلاقها سياسيًا وإعلاميًا كما حدث في سورية والسودان وليبيا، بما جعل الإعلام شريكًا فاعلًا في تفكيك المجتمعات، لا مجرد ناقل محايد للأحداث.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب