جمعة رجب.. عيد الأعياد وأولها في اليمن
السياسية || محمد محسن الجوهري*
مناسباتُنا كلُّها دينيةٌ التزامًا بقوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾، وفي أول جمعةٍ من رجب في العام الثامن للهجرة، أعلن اليمنيون كافةً دخولهم في دين الله أفواجًا استجابةً لله ولرسوله، ولرسولِ رسوله إليهم، فقد اصطفى الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة الرجلَ الثاني في الإسلام، وهي المرة الأولى التي يتسلّم فيها مهمةً غير قتالية، وهي وإن كانت كذلك، إلا أنها تبقى صعبةً بالنسبة لغيره، ولم يكن سوى عليٍّ يليق بالمهمة وحجمها.
وحتى اليوم، يبقى عليٌّ هو عنوانَ الهداية بالنسبة لليمنيين، وعنوانَ عزتهم وكرامتهم، فمن تولّاه منهم اهتدى بهدي الله وساد بذلك على سائر الأمم، ومن حاد عنها كان دينه المال ولو على حساب الإسلام والكرامة، التي هي قدرٌ لكل أبناء الشعب اليمني، وواقع المرحلة يشهد بعظمة من أسلم في جمعة رجب، وبوضاعة من حاد عنها، فهم على دين الوثنية حتى عصرنا الحاضر.
واستحضار الإمام عليٍّ عليه السلام في الوعي اليمني هو استحضارٌ لمنهجٍ كاملٍ في الفهم والموقف والالتزام، حيث اقترن الإيمان بالعدل، والدين بالكرامة، والولاية بالتحرر من كل أشكال الارتهان. ومن هذا المعنى تشكّلت شخصية اليمني عبر العصور؛ صلبةً في وجه الظلم، عصيّةً على الشراء، لا ترى في المال ولا في السلطان بديلاً عن الحق، ولا تقبل أن يُختزل الدين في طقوسٍ خاوية أو مصالح زائلة. ومن هنا يتجدد الصراع اليوم كما كان بالأمس، بين خطّ الهداية المتجذر في جمعة رجب، وخطّ الانحراف الذي لم ينتج عبر التاريخ إلا الخضوع والفراغ والانفصال عن روح الإسلام الحي.
ولأن مناسباتنا دينية، فالأولى أن نوليها كلَّ اهتمامنا، فهي إحياءٌ لنعمة الله العظمى علينا، وهي الدخول في دين الله والالتحاق بمسيرة الإسلام التي يقودها خيرُ خلق الله، النبيُّ الخاتم محمد بن عبدالله، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
فإحياء هذه المناسبة هو في جوهره تعبيرٌ عن شكر النعمة وصونها من التفريط، وترسيخٌ للوعي بأن الدخول في دين الله لم يكن حدثًا تاريخيًا منقطعًا، بل بداية لمسؤولية مستمرة تتجدد في كل مرحلة. وهو استحضارٌ لمعنى الالتزام العملي بالإسلام عقيدةً وسلوكًا وموقفًا، بعيدًا عن الشعارات المجردة، وبما يحفظ للأمة مسارها الصحيح، ويمنح الأجيال اللاحقة وعيًا بهويتها، واتصالًا حيًا بجذورها الإيمانية التي شكّلت وجدان اليمنيين منذ فجر الإسلام وحتى اليوم.
وإلى جانب عظمتها الدينية، فهي أيضًا سياسيةٌ بامتياز، فالسياسة من الدين ولا تتأخر عنه، وفي إحيائنا لجمعة رجب رسالةٌ صريحةٌ لكل أعداء الله أننا على عهدنا مع الله ورسوله منذ ذلك التاريخ وحتى آخر أيام الدنيا، وأن كل مشاريعهم لخلق مرجعياتٍ وهميةٍ للشعب اليمني هي فاشلة، ولا أمل في إحيائها، فالشعب اليمني هويته دينيةٌ إيمانية، ولا مجال للعصبيات الجاهلية أن تحيا بيننا، فديننا الإسلام، المشروع العالمي العابر لكل الحدود التي صنعها البشر، وفي الإيمان به التكريمُ الأعظم للإنسانية جمعاء.
وعليه، فإن إحياء جمعة رجب ليس طقسًا عابرًا ولا احتفالًا فولكلوريًا منزوع الدلالة، بل موقفٌ واعٍ يعيد تثبيت البوصلة في زمن الاضطراب، ويؤكد أن اليمن، شعبًا وتاريخًا، لم يكن يومًا فراغًا قابلًا لإعادة التشكيل وفق أهواء الخارج، ولا ساحةً لتجارب المشاريع المستوردة. إنها مناسبة يُستعاد فيها معنى الانتماء الحقيقي، حيث تتقدّم القيم الإيمانية على كل اعتبار، وتُسقِط كل محاولات التفكيك والتغريب، وتُجدد العهد بأن المرجعية التي صاغت هوية اليمنيين منذ دخولهم الإسلام ستبقى هي الحاكمة لمسارهم، مهما تنوّعت أدوات الاستهداف وتبدّلت عناوينه.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

