لابد أن يكون في كل بيت من بيوت العالم لاجئ من عيلام.!
السياسية:
كيان الأسدي*
من هذه العبارة المكثفة، ذات الدلالة الرمزية والعقائدية العميقة، تنطلق الأسس التوراتية التي تقوم عليها المسيحية الصهيونية، تلك العقيدة التي لم تبقَ حبيسة النصوص الدينية المحرفة، بل تحولت إلى مشروع سياسي واستراتيجي يحكم سلوك الغرب، ويبرر سياساته، ويوجه قراراته في الشرق الأوسط. وهي العقيدة التي يستند إليها بنيامين نتنياهو ومن سبقه ومن سيأتي بعده، ما دام هذا الكيان قائمًا، باعتبار أن الصراع ليس سياسيًا ولا جغرافيًا فحسب، بل هو صراع إيماني مؤسس على النبوءات.
تستند هذه الرؤية إلى ما ورد في سفر إرميا من نبوءة تقول: «هأنذا أكسر قوس عيلام… وأجلب عليهم شرًا عظيمًا… وأبددهم في كل الرياح». وقد جرى توظيف هذه النبوءة عبر التاريخ الحديث لتكريس عداءٍ دائم لإيران، بوصفها الامتداد الحضاري والجغرافي لعيلام القديمة. ومن هنا يمكن فهم ثبات الموقف الغربي، ولا سيما الأمريكي، تجاه إيران منذ سقوط نظام الشاه وحتى يومنا هذا، إذ لم يتغير جوهر العداء، وإنما تغيّرت أدواته، وكانت العقوبات الاقتصادية والحصار السياسي إحدى أبرز نتائج فقدان السيطرة.
لقد عملت الولايات المتحدة، كعادتها، على خلق أنظمة عميلة تضمن مصالحها ونفوذها، وكان نظام الشاه النموذج الأوضح لذلك. ولم يقتصر الأمر على الدعم السياسي والعسكري، بل تعداه إلى تغلغل عميق في المجتمع الإيراني، عبر أجهزة قمعية كجهاز السافاك، الذي تولّى مهمة ضرب الهوية الدينية، وتشويه القيم الأخلاقية، ومحاربة كل ما يمت للإسلام بصلة. فاستُهدف الحجاب، وحوصرت المؤسسات الدينية، ودُفعت المرأة باتجاه التعري تحت شعارات زائفة عن الحداثة والتحرر، في محاولة ممنهجة لنزع هيبة المجتمع وتفكيك منظومته القيمية.
غير أن كل ما حققه الغرب خلال عقود من الهيمنة، سُحق على يد رجلٍ كبير في السن، مُبعد عن وطنه، لكنه كان يحمل مشروعًا ثوريًا متكاملًا، الإمام الخميني قدس سره، لقد جاءت الثورة الإسلامية في إيران لتقلب المعادلة رأسًا على عقب، رافعة شعار «لا شرقية ولا غربية»، ومعلنة استقلال القرار السياسي والعقائدي عن أي وصاية دولية. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير نظام، بل كان ضربة قاصمة للمشروع الأمريكي في المنطقة، إذ فقدت واشنطن إحدى أهم ساحات نفوذها الإستراتيجية.
هذا الفشل الأمريكي دفع صناع القرار في الغرب، ومعهم القوى الصهيونية والماسونية العالمية، إلى إعادة قراءة المجتمع الإيراني بوصفه خطرًا وجوديًا. فبعد أن فشلت كل محاولات الإلهاء والتغيير والاحتواء، لم يبقَ أمامهم سوى خيار الضرب المباشر أو غير المباشر، ومحاولة القضاء على الروح الثورية الإسلامية، لأن نجاح هذا النموذج يعني نهاية النفوذ الغربي في الشرق الأوسط بأسره.
وفي هذا الإطار، تأتي سياسة الحصار الاقتصادي كأداة مركبة، تهدف من جهة إلى إنهاك الداخل الإيراني، ومن جهة أخرى إلى دفع أعداد كبيرة من الإيرانيين للهجرة. هؤلاء يتم احتواؤهم لاحقًا ضمن منظمات تعمل ضد الجمهورية الإسلامية، مثل منظمة منافقي خلق وغيرها، التي تُدار من الخارج، وبعضها يرتبط بابن الشاه المقيم في الولايات المتحدة. ومن هنا يمكن فهم سبب اعتقال العديد من الجواسيس داخل إيران، إذ إن كثيرًا منهم خضعوا لعمليات تجنيد وإعداد خارج البلاد.
وعليه، فإن الصراع مع الكيان الصهيوني ليس صراع مصالح عابرة، بل صراع عقائدي بامتياز، وهو ما يعترف به قادة هذا الكيان أنفسهم. فنتنياهو يحرص دائمًا على إعطاء حروبه أسماء توراتية، ويقدّم نفسه بوصفه مُنفذًا لإرادة إلهية، مهمته تحقيق «أرض الميعاد» وإقامة إسرائيل الكبرى. وقد صرّح في أحد خطاباته بأنه لا سلام في المنطقة إلا بالتطبيع مع ما يسميه «الشيعة»، في إشارة واضحة إلى إيران وقوى المقاومة.
وبمعنى آخر، لا سلام من وجهة نظرهم مع وجود جمهورية إسلامية مستقلة، بل المطلوب هو عودة إيران إلى نموذج الشاهنشاهية، أو قبولها بلعب الدور الوظيفي ذاته الذي كان الشاه يؤديه، خاضعةً للإرادة الغربية، ومسلوبة القرار والسيادة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

