جمعة رجب.. حين تتحوّل الذاكرة إلى وعي والتاريخ إلى مسؤولية
هاشم عبدالجليل جحاف*
ليست بعضُ المناسبات مُجَـرّد تواريخ محفوظة في الذاكرة، بل محطّات وعيٍ تُعيد تعريف الإنسان بنفسه، وتضعه أمام سؤاله الجوهري: من نكون؟ ولماذا نكون؟ وفي هذا السياق، تحضر الجمعة الأولى من شهر رجب في الوجدان اليمني لا بوصفها ذكرى طقسية، بل كحدثٍ تأسيسيٍّ عميق، صاغ هُوية شعب، ورسّخ انتماء أُمَّـة، وربط الأرض بالسماء برباط الإيمان.
إن الشعوب التي تفقد ذاكرتها تفقد قدرتها على الفهم والبقاء.. أما الشعوب الحيّة، فتجعل من تاريخها مادةً للوعي، ومن مناسباتها جسورًا بين الماضي والحاضر.
واليمن، منذ فجر الإسلام، لم يكن على هامش الرسالة، بل في قلبها؛ شاهدًا ومشاركًا وحاملًا للأمانة.
فالإسلام لم يدخل اليمن صدفة، ولم يمرّ به مرور العابرين.
لقد سبق اليمنيون إلى نور الإيمان منذ الأيّام الأولى، وبرز منهم رجالٌ شكّلوا علامات مضيئة في تاريخ الدعوة، وأسهموا في بناء اللبنات الأولى للأُمَّـة الإسلامية.
ثم جاء الدور المفصلي حين اختار الله الأوس والخزرج -وهما من الجذور اليمانية- ليكونوا أنصار الرسالة، وحُماة الدولة الناشئة، فاستحقوا شرف الاسم والمقام، لا بمنحة بشرية، بل بتكريم إلهي خالد.
وتتجلّى ذروة هذا المسار في ذلك اليوم الفاصل: الجمعة الأولى من رجب، حين بُعث الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- إلى اليمن، حاملًا رسالة الإسلام إلى صنعاء، لا بالسيف، بل بالحكمة والعدل والصدق.
فكان الاستقبال استجابة، وكانت النتيجة دخول الناس في دين الله أفواجًا.
حدثٌ لم يكن عابرًا في ميزان التاريخ، بدليل أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- استقبله بسجدة شكر، اعترافًا بعظمة الفتح، ودلالته العميقة.
من هنا، فإن إحياء هذه الذكرى لم يكن يومًا تعبيرًا عن تعصّب للماضي، بل ممارسة واعية للشكر، وتجديدًا للعهد مع نعمة الهداية.
فالقرآن الكريم لا ينظر إلى النعم كأحداث منتهية، بل كمسؤوليات مُستمرّة، تُستحضَر لتُصان، وتُذكَر لتُحمى من النسيان والتزييف.
وفي زمنٍ تتعرّض فيه الهُويات للتفكيك، والقيم لمحاولات الإفراغ، تصبح هذه الذكرى أكثر من مناسبة؛ تتحوّل إلى درع وعي في وجه الطمس، وإلى بوصلة أخلاقية تُعيد ترتيب الأولويات، وتُذكّر بأن الإيمان ليس شعارًا، بل موقف، ولا إرثًا جامدًا، بل مشروع حياة.
لقد ظلّ اليمني، عبر القرون، وفي أشدّ الظروف قسوة، وفي أحلك المنعطفات، متمسّكًا بجوهر هذه الذكرى؛ يستمدّ منها صبره، ويستعيد عبرها ثقته بذاته، ويجد فيها تفسيرًا لصموده التاريخي.
فالإيمان الذي دخل هذه الأرض يومًا، لم يكن طارئًا، بل صار جزءًا من نسيجها، ومن سرّ قدرتها على النهوض رغم العواصف.
إن الجمعةَ الأولى من رجب ليست يومًا يُحتفى به وينقضي، بل معنى يُستعاد، وهُوية تُجدَّد، وشهادة تاريخية بأن هذا الشعب، منذ أن عرف طريق الإيمان، لم يتخلَّ عنه، ولم يساوم عليه، وسيظلّ -مهما تغيّرت الأزمنة- يحمل رايته، ويدافع عن جوهره؛ لأَنَّ به كان، وبه يكون.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت

