السياسية || محمد محسن الجوهري*

أمر الله سبحانه وتعالى أنبياءه بأن يُذكِّروا أقوامهم بأيام الله، وهي الأيام التي أخرجهم الله فيها من الظلمات إلى النور، ومن الاستضعاف وعبادة البشر إلى عبادة الله وحده. ومن هذه الأيام جمعة رجب، التي أكرمنا الله فيها بالرحمة الكبرى والفضل العظيم، حيث دخل اليمنيون كافةً في الإسلام في ذلك اليوم، وفي تذكيرنا به إحياءٌ للمنة الإلهية علينا وتجسيدٌ لقوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [سورة يونس: 58].

وانطلاقًا من هذا المعنى، فإن إحياء جمعة رجب هو موقف إيماني واعٍ يعبّر عن الوفاء لله وشكر نعمته العظمى، ويجدد الارتباط بالهوية الإيمانية التي تشكّل أساس كرامة هذا الشعب وحريته. فالتذكير بهذه المناسبة يعمّق الوعي بتاريخ الهداية، ويحصّن الأجيال من محاولات الطمس والتزييف، ويؤكد أن الأمم التي تحفظ ذاكرتها الإيمانية قادرة على الصمود ومواجهة مشاريع الاستلاب، لأن شكر النعمة شرط لبقائها، والغفلة عنها مدخل لزوالها.

إضافةً إلى ذلك، ففي إحياء المناسبة توثيقٌ عمليٌّ لإسلام أهل اليمن الطوعي دون قيد أو شرط، وهو الموقف الذي أرادت له الوهابية وسائر الفرق الضالة أن يُطمس، إذ أرادوا تصوير الإسلام على أنه فُرض بحدّ السيف على الشعوب، وفي هذا تشويهٌ كبير للإسلام العظيم الذي يمثّل الخلاص الأوحد للبشرية جمعاء من براثن الطغيان والعبودية للبشر وللإمبراطوريات الاستعمارية.

وإزاء هذا التزييف المتعمّد للتاريخ، تأتي جمعة رجب لتفنّد هذه المزاعم وتعيد تصحيح السردية، مؤكِّدةً أن دخول أهل اليمن في الإسلام كان خيارًا واعيًا نابعًا من القناعة والإيمان، لا نتيجة قهرٍ أو إكراه. فإحياء هذه الذكرى يشكّل فعلًا ثقافيًا ومعرفيًا يعيد الاعتبار للحقيقة، ويحصّن الوعي الجمعي من حملات التشويه التي استهدفت الإسلام وتاريخه. كما يرسّخ حقيقة أن هذا الشعب كان سبّاقًا إلى الحق، متفاعلًا مع رسالة الإسلام بوصفها مشروع عدل وكرامة وتحرّر، لا أداة هيمنة أو توسّع قسري. ومن هنا، فإن التمسك بإحياء جمعة رجب هو تمسّك بالهوية الإيمانية الأصيلة، وموقف واعٍ في مواجهة القراءات المزيفة التي توظّف الدين أو تطعن فيه لخدمة مشاريع سياسية أو فكرية معادية لجوهره الإنساني والتحرري.

والحقيقة أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا ينطق عن الهوى، كان بنفسه حريصًا على توثيق إسلام أهل اليمن، ولذلك بعث لهم وزيره ووصيَّه وخيرَ من يخلفه بعده، وحتى لا يُقال إن أهل اليمن آمنوا على يد فلان أو فلان بالقوة، كما حدث مع شعوب أخرى مثل مصر؛ فقد آمن حاكمها المقوقس وأهدى رسولَ الله أمَّ المؤمنين مارية تأكيدًا على إسلامه وإسلام شعبه. لكن أئمة الجور نسبوا هذا الإنجاز لاحقًا لأنفسهم، وجعلوا من دخول عمرو بن العاص القهري إلى مصر بدايةَ معرفتها بالإسلام، وفي ذلك ظلمٌ لشعبٍ مسلمٍ عظيم يعرف عظمة الدين وعظمة الرسالة.

ومن هنا تتضح خطورة العبث بالسرديات التاريخية، حين تتحول الوقائع المشرقة إلى أدوات بيد السلاطين لتكريس شرعيتهم، ولو على حساب الحقيقة والعدل. فطمس إسلام الشعوب الطوعي ونسبته إلى الفتح القهري جناية أخلاقية ومعرفية تسلب الأمم حقها في الفخر بإيمانها الواعي وخيارها الحر. وإحياء جمعة رجب في هذا السياق هو استعادة للحق المسلوب، وردٌّ للاعتبار لشعبٍ دخل الإسلام عن بصيرة، وحافظ على جوهر الرسالة بعيدًا عن تحريف المستبدين وتأويلاتهم التي شوّهت الدين وأساءت إلى مقاصده السامية.

وقد أرادت الوهابية ودعاة التهويد حرف هذا المسار عن قصد خلال العقود المتأخرة، فعملوا على تغييب هذه المناسبة عن الوعي العام، وجرّموا إحياءها، وكفّروا كل من يتمسّك بها أو يحييها بوصفها يومًا من أيام الله. ثم مضوا إلى تشويه الحقيقة التاريخية، فنسبوا إسلام أهل اليمن إلى شخصيات أخرى لا صلة لها بجوهر الدين ولا بروحه، في محاولة لطمس الموقف الإيماني الحر لهذا الشعب. ولم يكتفوا بذلك، فقد سعوا إلى فرض تقديس تلك الشخصيات بالقوة، وتحويل التاريخ إلى أداة إخضاع، في سلوكٍ يعكس ذهنية الوصاية والاستعلاء، ويتناقض كليًا مع رسالة الإسلام التي قامت على الهداية بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالإكراه والتزييف.

وخلاصة القول، فإن إحياء جمعة رجب هو موقف ديني وتاريخي وأخلاقي يعيد الاعتبار للحقيقة، ويصون ذاكرة أمة دخلت الإسلام عن وعيٍ واختيار. كما أنه تأكيد حقيقة الإسلام وجوهره المتسامح مع الشعوب التي جاء لتحريرها، ومن هنا، فإن التمسك بهذه المناسبة هو تمسك بالهوية، وشكر للنعمة، ورفض لمحاولات الطمس والتحريف، ورسالة واضحة بأن هذا الشعب يعرف تاريخه، ويفهم دينه، ولن يسمح لأحد أن يسرق منه شرف خياره الإيماني أو يزوّر وعيه باسم الدين.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب