وقف إطلاق النار في اليمن: تراجع أمريكي تحت عباءة "السلام بالقوة"
السياسية || كيان الأسدي*
ما يُسمى بوقف إطلاق النار في اليمن لا يعدو كونه تراجعًا أمريكيًا معلنًا، لا من منطلق القوة، بل من عمق الورطة. فالقوات المسلحة اليمنية لم تبادر إلى استهداف الأسطول الأمريكي في البحر الأحمر، ولا أي من المصالح الأمريكية؛ إذ كانت جميع عملياتها تندرج في إطار الرد المشروع على العدوان، والدفاع عن السيادة.
منذ بداية العدوان السعودي الأمريكي على اليمن في عام 2015م، سعت أمريكا إلى تعزيز الهيمنة على المنطقة، وفرض سيطرتها عبر دعم الأنظمة العربية الحليفة، وعلى رأسها السعودية والإمارات. ومع مرور الوقت، كان التدخل العسكري الأمريكي يتعاظم من خلال تقديم الدعم اللوجستي والتقني للقوات السعودية، واستمرار بيع الأسلحة المتطورة إلى دول التحالف. لكن، مع تطور المواجهة على الأرض، بدأ يظهر جليًا أن هذا التدخل لحماية مصالح استراتيجية وأمنية، بما في ذلك دعم الحليف الإسرائيلي بذريعة مواجهة النفوذ الإيراني.
أول هجوم أمريكي: مصلحة "إسرائيل" في قلب الأزمة
أول هجوم أمريكي جاء بتحالف دولي وتحت ذريعة "حماية حرية الملاحة"، بعد أن فرضت صنعاء حصارًا بحريًا على الكيان الصهيوني، مستهدفة السفن الإسرائيلية وكل من يدعمها. هذا الحصار الذي جاء ردًا على السياسات العدوانية للإحتلال الإسرائيلي، كان يعد نقطة تحول في الحرب اليمنية، حيث أصبح اليمن قوة مؤثرة في المعادلة الإقليمية، تفرض الحصار وتستهدف السفن التي تمول الاحتلال الإسرائيلي.
حينها دفعت واشنطن بأساطيلها، بوارجها، وحاملة طائراتها، لمحاولة كسر هذا الحصار، وتقويض قدرة "أنصار الله" على مواصلة الضغط. ولكن، ومع توالي الفشل الأمريكي والإسرائيلي في وقف الصواريخ الباليستية الفرط صوتية التي كانت تخترق سماء الكيان وتضرب عمقه، استمر اليمن في توجيه الضربات، وفرض الحصار، وإذلال الأسطول الذي جاء لفك الطوق عن "إسرائيل".
أمريكا: "القوة" التي تراجعت عند أول مواجهة حقيقية
اليمن، من منطلق الحق الطبيعي، ردّ على مصادر النيران، مدافعًا عن أرضه ومياهه وسيادته. لم تُستهدف البوارج الأمريكية قبل اقترابها من المياه الإقليمية، ولم تُضرب إلا بعد أن بدأت العدوان. فاليمن القرآني، كما تؤكد قيادته، لا يبدأ القتال بل يرد الظلم ويكسر المعتدي. وهذا التوجيه القوي كان ردًا على المحاولات الأمريكية المتكررة لتقويض سيادة اليمن، وتأكيدًا على قوة الإرادة الوطنية التي لا تهادن في حماية الأرض والمقدسات.
الوقف الأمريكي: سقوط أسطورة القوة العظمى
القناة 12 العبرية عبّرت عن الصدمة الإسرائيلية بوضوح: "إسرائيل مصدومة من إعلان ترامب وقف قصف اليمن". وتلك الصدمة لم تكن إلا انعكاسًا لفشل ذريع في تحقيق ما وعد به ترامب في رؤيته القائمة على "السلام من خلال القوة".
ترامب المخادع الذي يسعى إلى الخروج من مستنقع اليمن عبر بوابة الأكاذيب والتضليل، لم يجنِ من عدوانه إلا الخيبة. وقف إطلاق النار، كما جرى بعد خمسين يومًا من القصف، جاء ضربة موجعة لادعاءاته، وفضيحة تكشف حدود الهيبة الأمريكية التي تتهاوى عند أول اختبار جاد.
تراجع الولايات المتحدة: من "السلام بالقوة" إلى "الرضوخ للمفاوضات"
تخيلوا المشهد جيدًا: اتفاق بين واشنطن وصنعاء ينصّ على: "يمتنع كل طرف عن استهداف الآخر".
نعم، صدّقوا إن شئتم أمريكا واليمن. واشنطن التي جاءت بكل ما تملك من سلاح ونار، تنكفئ في النهاية متوسلة عبر سلطنة عُمان لضمان أمن سفنها، وتتنازل عن ضرباتها. أهذه هي القوة التي تتشدّق بالهيمنة وتزعم فرض المعادلات؟
في جوهره، لم يكن الاتفاق سوى رضوخ أمريكي تام لمعادلة صنعاء التي أعلنت منذ اليوم الأول: "لا تعتدوا، نكفّ عن استهدافكم". لكنهم لم يسمعوا إلا بعد أن أُذِلّت حاملاتهم في البحار، وانكشفت هشاشة ترسانتهم أمام صواريخ شعب مُحاصر لكنه لا يُقهر. هذا هو الدرس الذي تلقاه ترامب، وهو أن القوة العسكرية، مهما كانت هائلة، لا يمكنها أن تقهر إرادة شعب متمسك بأرضه وبالعدالة.
ترامب… زعيم يتراجع حين تمسّ مصالحه
في النهاية، لا يمكن لترامب أن يُسَوّق هروبه كتفوّق. هو طلب الخروج من المستنقع، لا أكثر. وحين عجز عن حسم المعركة، هرول نحو المساومة، محاولًا تصدير صورة المنتصر. لكنه لم يخدع سوى نفسه. فترامب الذي كان يتفاخر بقوة بلاده العسكرية، لم يتمكن من الحفاظ على سيطرة أمريكا في هذا الصراع، وتراجع عندما شعر أن مصالحه هي التي باتت في خطر.
واليوم، تصرخ وسائل الإعلام الإسرائيلية: "ترامب خذلنا… تخلّى عنا… تركنا وحدنا نواجه اليمن".
نعم، هذه هي الحقيقة. ترامب، الذي لا يرى في حلفائه سوى ممولين مؤقتين، يتعامل معهم بمنطق الربح والخسارة. يتخلّى عن "إسرائيل" التي تعتبرها أمريكا "الروح من الجسد"، فكيف بمن هم دونها من التابعين العرب؟ ترامب لا يحمي أحدًا… بل يتخلى حتى عن أقرب حلفائه حين تمسّ مصالحه. فكيف يثق به من لا يملك قرار نفسه؟
الموقف الأمريكي والإسرائيلي: تداعيات ما بعد التراجع
ما نراه اليوم من تراجع أمريكي يمكن أن يكون له تبعات بعيدة المدى على المواقف الدولية والإقليمية. فالدول الكبرى قد تعيد تقييم مواقفها من السياسة الأمريكية بعد أن تكشف فشلها في فرض إرادتها في الشرق الأوسط. وبالتوازي، قد تسعى دول أخرى، مثل الصين وروسيا، إلى استغلال هذا الفراغ لتعزيز نفوذها في المنطقة، في ظل فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
من جهة أخرى، فإن التصريحات الإسرائيلية الأخيرة تعكس حالة من القلق والتخوف من المستقبل، إذ أن "الكيان" الذي كان يعوّل على دعم أمريكي غير محدود، يجد نفسه اليوم في موقف صعب، حيث لا يُمكنه أن تعتمد على الحماية الأمريكية كما كانت في السابق.
في الختام، يكشف تراجع أمريكا عن التورط في اليمن عن عجز كبير في الاستراتيجيات العسكرية والسياسية التي اعتمدتها. والمثير في هذا التراجع أنه جاء بعد فشل محاولات متعددة لدحر المقاومة اليمنية، مما يثبت أن إرادة الشعوب لا يمكن قهرها بالأسلحة المتطورة. ولعل هذا التراجع يكون نقطة تحول في رسم ملامح المنطقة المستقبلية، والتي قد تشهد تغييرات جوهرية في التحالفات والمواقف الدولية.
• المقال يعبر عن رأي الكاتب