سليمان أبو ستة*

يواصل أنصار الله بزعامة السيد عبد الملك الحوثي في اليمن قصف مستوطنات الاحتلال في فلسطين المحتلة بالصواريخ؛ رغم العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء وموانئ اليمن، ورغم محاولة الولايات المتحدة الأميركية الضغط على اليمن لوقف إسناده للفلسطينيين، فإنها اضطرت إلى التراجع، فيما استمر الدور اليمني الهادف إلى فرض حصار بحري وجوي على الاحتلال وفق الإمكانات والقدرات المتاحة.


وقد أثبت الإسناد اليمني مجموعة من الحقائق، وأثار عدداً من الأفكار، وأرسى جملة من النتائج، وهو ما نحاول توضيح بعضه في هذا المقال.

فلقد أثبت الإسناد اليمني أن الأنظمة العربية قادرة على مساندة الفلسطينيين، وأن المشكلة ليست كما تدعي في عجزها عن فرض إرادتها، وفقدانها لأدوات التأثير، وإنما تكمن المشكلة في انعدام تلك الإرادة، وغياب الرغبة في إسناد الفلسطينيين، فكثير من الدول العربية أغنى من اليمن، وأكثر تعداداً منه نوعاً وكمّاً، وأقرب إلى فلسطين منه، ولنا أن نتخيل الواقع لو كان اليمن بإرادته السياسية الحالية على حدود فلسطين مباشرة، كم سيكون فعله مؤثراً، وكبيراً.

وما سبق ينقلنا إلى فكرة أخرى في غاية الأهمية، إذ أثبت الإسناد اليمني أن الرغبة الجماهيرية المجردة - على أهميتها البالغة ومع احترامنا الكبير لأصحابها- لا قيمة فعلية لها ما لم تستند إلى امتلاك حقيقي فعال للقرار السياسي، فكثير من جماهير الأمة لديهم من الرغبة في نصرة فلسطين والاستعداد لدفع ثمن ذلك من المال والدم، ما لدى الشعب اليمني وأكثر، لكن تلك الرغبة ظلت حبيسة الصدور، ولم تترجم إلى إنجاز فعلي كما حدث في الحالة اليمنية، وما ذلك إلا لأن تلك الرغبة كانت فاقدة للقرار السياسي القادر وحده على ترجمتها من مشاعر إلى أفعال.

وهذا ما يفسر حالة العجز العربي المهول في مواجهة المجزرة المستمرة والتي تؤلم كل حر، بل كل حي، ذلك أن كل الإنجازات البشرية الكبرى نتجت عن قرار سياسي، هذا القرار الذي بات اليوم متناقضاً بشكل تام مع إرادة الأمة ورغبتها ومصالحها وعقيدتها، وما لم تنجح الأمة في تحرير قرارها السياسي لن تنجح أبداً في وقف أي مجزرة مشابهة لمجزرة غزة.

وفهم الأمة، بجماهيرها ونخبها، لما سبق يعطي الدور اليمني أهمية إضافية، إذ يمكن أن يشكل نموذجاً ملهماً، يدفع الأمة أو بعض مكوّناتها إلى مساءلة نفسها عن سبب عجزها مقابل النجاح اليمني، وعما تفتقده ليكون تأثيرها مشابهاً لتأثير ذلك الدور.

ولا يمكن التقليل في حال من الأحوال من أهمية تأثير النموذج الناجح على المكونات المجاورة، فما شن الاحتلال وحلفاؤه حرب الإبادة الحالية على قطاع غزة إلا لمنعه من التحول إلى نموذج ناجح في الإعداد والاستعداد والمباغتة وتضليل العدو والتفوق عليه، فكان الثمن الفادح رسالة صارمة لكل من يحاول رفع رأسه، تقول بوضوح ستكون نتيجة المحاولة أكثر فداحة مما يمكن أن يتخيل أي بشر.

وهي الرسالة التي يؤدي الدور اليمني المساند إلى التقليل من تأثيرها، فذلك الإسناد يرفع من دون شك الروح المعنوية للفلسطينيين ويعزز صمودهم، ويذكرهم وجود من يناصرهم بانتمائهم إلى أمة يمكن أن تتحرك يوماً ما، وتذكر المستوطنين الإسرائيليين بأن معركتهم ليست مع الفلسطيني فحسب، بل مع أمة ممتدة لم يكن للتطبيع السطحي أن يغير عقيدتها الضاربة في أعماق خلاياها.

الدور اليمني أثبت كذلك ما سبق أن أثبته السابع من أكتوبر وهو محدودية تأثير القوة الإسرائيلية رغم قدرتها التدميرية المهولة، فقد يقتل الاحتلال عشرات الألوف ويدمر مدناً بكاملها، لكنها ستظل عاجزة بعد عام ونصف عن وقف صواريخ اليمن التي تستهدف أهم مرافق الكيان الحيوية "مطار بن غوريون".

ولعل من أهم تأثيرات الإسناد اليمني أنه يثبت للعالم أن العدوان على الفلسطينيين لن يظل محصوراً في فلسطين، وأن جرائم الاحتلال ستقود إلى صراع أوسع، ستكون له تأثيراته على الإقليم عموماً، وعلى أهم ممراته المائية وحركة التجارة العالمية فيه، وهو ما ينذر بتفجير مزيد من الصراعات، وكل ذلك لا حل له إلا بعلاج الجرح الملتهب في فلسطين.

وسيؤدي ذلك إلى تحويل الاحتلال الإسرائيلي إلى عبء كبير على حلفائه الإقليميين والدوليين، ولنا أن نتأمل التأثير السلبي لهذا الصراع على واحدة من أهم دول المنطقة، من خلال النظر إلى الخسائر التي تكبدتها قناة السويس، وتأثير ذلك على استقرار الأوضاع الاقتصادية في مصر، وهو ما يمكن أن يكون أكثر تأثيراً وأوسع في حال تصاعد الصراع عبر الضربات المتبادلة.

وهو ما يجعل كثيراً من دول المنطقة أكثر حذراً في تحالفاتها الأمنية والعسكرية مع الاحتلال، إذ قد تطالها ردات الفعل إذا توسعت المواجهة الحالية أكثر، وهو ما قد يضر بمصالحها حيث سيقود أي تصعيد إلى تأثير أكبر على حركة التجارة من المنطقة وإليها.

أما حلفاء الاحتلال الدوليون فسيتأثرون حتماً بأي تصعيد للصراع، فحركة تجارتهم إلى المنطقة العربية ومنها كبير جداً، وهو ما سيؤدي إلى خسارة كبيرة، لا يعرف أحد حدودها اليوم لأنها قابلة للتوسع كلما توسعت آفاق الصراع إذا لم يسارع الجميع إلى حله، وهو ما لا يمكن حله إلا بوقف العدوان على قطاع غزة، وقد حاولوا من خلال الهجمات الأميركية- البريطانية وقف الفعل اليمني المساند إلا أنهم فشلوا وتراجعوا.

وأختم بواحد من أهم التأثيرات المحتملة للإسناد اليمني، وهو تنبيه الفلسطينيين إلى أهمية وجود قاعدة مساندة لهم في مكان بعيد عن نفوذ الاحتلال المباشر، وهو ما قد يدفعهم إلى العودة مجدداً لتدويل صراعهم مع الاحتلال كما جرى في السبعينيات من القرن الماضي، حيث ستؤدي أي بقعة يوجدون فيها؛ وتقوم بما يقوم به اليمن من قصف صاروخي إلى إحداث توازن مهم، في ظل حرب الإبادة غير المسبوقة في التاريخ الفلسطيني، وهو ما سيجد الفلسطينيون -أو جزء منهم - أنفسهم مجبرين عليه إذا تواصلت الإبادة الحالية، أو وجد بعضهم نفسه مهجراً من غزة رغماً عن إرادته.

كانت تلك بعض التأثيرات اليمنية من خلال معركة الإسناد الأكثر أهمية لفلسطين في التاريخ الحديث، فلم يسبق أن تم إغلاق البحر الأحمر في وجه الاحتلال بهذا المستوى الناجح، ولم يسبق لأحد من العرب سوى حزب الله اللبناني أن يقصف الاحتلال بالصواريخ على مدار أشهر من دون أن ينجح العدو في كسر إرادته.

* المقالة تعبر عن رأي الكاتب ـ موقع الميادين نت