الدكتور عبدالرحمن المختار*

إنه ترامب، الرئيس الخامس والأربعون للدورة الرئاسية السابقة، والرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية للدورة الرئاسية الحالية، ويُعدُّ كبير أكابر مجرمي الإدارة الأميركية، ويجسد بكل معنى الكلمة قبح هذه الإدارة وإجرامها ووحشيتها، ومن سبقه من رؤساء سكنوا البيت الأسود لأربع سنوات أو لثمانٍ، كان كل منهم يتخفى خلف القيم الإنسانية والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، لتمرير إجرام هذه الإدارة بحق شعوب العالم، تحديدا ما يعرف بالعالم الثالث.

من نهب لثرواتها وسفك لدمائها، بشكل مباشر أو من خلال إشعال الصراعات الدامية فيما بينها، أو من خلال صناعة الجماعات التكفيرية وتمويلها وتحريكها باتجاه الفتك بالشعوب المستضعفة، لتنشغل هذه الشعوب بصراعاتها البينية أو مواجهة خطر الجماعات التكفيرية، التي تطلقها الإدارة الأميركية كالكلاب المسعورة خدمةً لأهدافها.

ولا يقف إجرام الإدارة الأميركية عند هذا الحد، بل إنها عمدت إلى تدمير المؤسسات والأجهزة الرسمية لعدد كبير من دول العالم الموصوفة بالثالث، وأفقدت الشعوب الثقة في مؤسساتها وأجهزتها الرسمية، لتأتي الإدارة الأميركية بعناصرها الاستخبارية من النافذة الإنسانية من خلال مئات المنظمات العاملة في المجال الإنساني، لتستمر في مسلسل إجرامها بحق هذه الشعوب، ولا تغادرها إلا وقد زرعت بذور الصراع البيني في ما بين سكانها إلى أدنى المستويات، وفي كافة المستويات والاتجاهات، بحيث إنها لا تكتفي بمجرد تدمير مؤسسات وأجهزة الدولة في هذه الشعوب، بلتعمد إلى تدمير الشعوب ذاتها بحيث لا تقوم لها قائمة، ليتسنى لها من خلال عملائها الاستمرار في نهب ثروات تلك الشعوب بأيدي أبنائها.

وتسلك الإدارات الأميركية المتعاقبة ذات المسلك في ما يتعلق بالجماعات الإرهابية، التي تنتجها وتمولها وتراعاها، وهي تفتك بالشعوب المستضعفة.

وتأتي الإدارة الأميركية بوصفها المنقذ والمخلص للشعوب من شر وخطر الجماعات الإرهابية، ودون إدراك لحقيقة إجرامها تقبل الشعوب بوجودها، بل وتطالب ببقائها واستمرارها رغم أنها تنهب خيراتها. هذا هو مسلك الإدارات الأميركية، التي عملت على تغطية إجرامها بحق الدول والشعوب من خلال النوافذ الإنسانية، وكذلك الجماعات التكفيرية التي تصنعها لتكون مبررًا لتواجدها في أي بلد لنهب ثرواته والسيطرة عليه، ولا يمكن في حقيقة الأمر الإحاطة بإجرام الإدارات الأميركية المتعاقبة ووسائلها المستخدمة للتغطية على جرائمها، لكن لكيلا يقتصر تناولنا لهذا الموضوع على الوجه السافر والقبيح للإدارة الأميركية، نذكّر فقط أن لوجهها الناعم أيضًا جرائم بحق الإنسانية لا تعد ولا تحصى.

ومنذ ما قبل توليه مهام منصبه رسميًا، شدد المجرم ترامب على ضرورة إنهاء الحالة في غزة قبل أن يسكن البيت الأبيض، وذلك التشدد يوحي بعدم رغبته بوجود ما يعكر صفو مزاجه سواء مناظر الأشلاء والدماء في قطاع غزة أو استمرار المواجهة بين المجاهدين وجيش الكيان الصهيوني، ليتفرغ الرئيس لإحلال السلام في أرجاء المعمورة! وبمجرد أن سكن البيت الأبيض، أطلق تهديداته لحماس بأنها إذا لم تفرج عن جميع من أسماهم بالرهائن دفعة واحدة، فإنه سوف يفتح أبواب الجحيم على غزة، وقد تزامن هذا التهديد مع خطوات تنفيذ اتفاق قائم بين المجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني وكيان الاحتلال الصهيوني وعلى عدة مراحل.

وحينها أعلن الطاغية المجرم ترامب خطته الإجرامية لتهجير أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة طوعياً إلى دول الجوار ليتحقق لهم العيش بسلام، وليتحقق للكيان الصهيوني مزيد من الهدوء والاستقرار ومزيد من الاتساع في النطاق الجغرافي الضيق، الذي وصفه بأنه لا يساوي مساحة القلم على مكتبه مقارنة بمساحة الشرق الأوسط. ولم يُخف المجرم ترامب انزعاجه واستغرابه من أسباب تخلي الكيان الصهيوني عن قطاع غزة، وعدم السيطرة عليه منذ البداية، وطرح بدائل متعددة للسيطرة على القطاع من جانب الإدارة الأمريكية بمقابل أو بدون مقابل بعد إخلائه من سكانه!

وعقب ذلك بدأ أكابر مجرمي الكيان الصهيوني يتحدثون بشكل واسع عن كيفية وضع خطة ترامب موضع التنفيذ من خلال التنسيق مع عدد من الدول التي لديها الاستعداد لاستقبال أبناء قطاع غزة تنفيذاً لخطة التهجير الطوعي، وبالتوازي مع ذلك بدأوا يتنصلون من التزامات الكيان المجرم، التي تضمنها الاتفاق مع المجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الذي لم تُستكمل إنجاز المرحلة الأولى منه، وتم التنصل فعلاً من تنفيذ جميع مراحل هذا الاتفاق وبنوده.

وحين أدرك المجرم ترامب أن خطته للتهجير الطوعي لم تلقَ قبولاً يُذكر من جانب أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الذين أعلنوا تمسُّكهم بحقهم في البقاء على أرضهم مهما كلّفهم ذلك من ثمن، بدأ المجرم ترامب وكأنه تراجع عن خطته بشأن التهجير الطوعي لأبناء قطاع غزة، فأطلق موقفًا جديدًا عبّر عنه بقوله: (لا أحد يمكنه أن يطلب من أحد مغادرة قطاع غزة). ويظهر هذا الموقف تراجعًا عن خطته السابقة، التي دعا من خلالها إلى تهجير أبناء قطاع غزة طوعًا إلى دول الجوار! لكن الحقيقة أن هذا الموقف يمثل خطة بديلة عن خطة التهجير الطوعي، ومضمون هذه الخطة البديلة إخلاء القطاع بأي وسيلة، وبأي ثمن!

وعقب إعلان ترامب موقفه هذا، بدأ أكابر مجرمي الكيان الصهيوني تنفيذ الخطة البديلة لإخلاء القطاع بأي وسيلة، تجسيدًا لموقف ترامب الجديد عقابًا لأبناء الشعب الفلسطيني على رفضهم لخطة التهجير الطوعي.

ليبدأ الكيان الصهيوني، وبشكل فوري وغير متدرج، منع دخول مستلزمات الحياة بشكل عام إلى قطاع غزة، ليضيف بذلك فعلاً جديدًا من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، يتمثل هذا الفعل في وضع السكان في ظروف معيشية قاسية، لتكون النتيجة الحتمية لذلك هي الموت جوعًا وعطشًا.

ولم يقتصر تنفيذ الكيان الصهيوني لخطة المجرم ترامب البديلة على مجرد وضع سكان قطاع غزة في ظروف معيشية قاسية نتيجتها الموت الحتمي جوعًا وعطشًا، بل عمل كيان الإجرام الصهيوني على توسيع عملياته العسكرية البرية والجوية، حيث استهدف النازحين في الخيام والمستشفيات والمدارس والطرقات وفي كل مكان تواجدوا فيه. وكذلك فعلت القوات البرية، التي وسعت نطاق سيطرتها على قطاع غزة، وكل ذلك تجسيد لخطة ترامب البديلة، التي أعلنها عقب فشل خطة التهجير الطوعي، بموقفه الجديد الذي ذكرناه آنفًا وهو: (لا أحد يمكنه أن يطلب من أحد مغادرة قطاع غزة)، ومضمون ذلك أن عدم الاستجابة لخطة التهجير الطوعي سيكون البديل عنها الموت جوعًا، وهو ما تم فعلاً، ولمدة أكثر من سبعين يومًا، وأبناء قطاع غزة يتضورون جوعًا في مشهد لم يشهد له التاريخ مثيلًا، عقابًا لهم على تمسكهم بحقهم في البقاء على أرضهم، ورفضهم خطة ترامب بتهجيرهم طوعًا إلى دول الجوار، وما كان لذلك أن يحدث لولا وجود داعية السلام المجرم ترامب في سدة الحكم في البيت الأبيض.

ما يجري في قطاع غزة هو تنفيذ حرفي لخطة ترامب لإخلاء قطاع غزة من سكانه بغض النظر عن الوسيلة التي يتم بها الإخلاء، وعن الثمن لذلك، ولقد أكد كبير أكابر مجرمي الإدارة الأميركية ترامب أثناء زيارته للدول الريعية النفطية العربية على استمرار تمسكه بخطة إخلاء غزة بقوله: (اتركوا الإدارة الأميركية تتصرف)، وفعلاً ترك العرب والمسلمون للإدارة الأميركية حرية التصرف، وليس ذلك فحسب بل دفع المنافقون من الأعراب مقابل تصرف الإدارة الأميركية في غزة وأهلها، مكتفين بالطلب إلى داعية السلام ترامب مساعدة أبناء غزة، وكما ذكر ذلك هو حرفيًا لصحيفة أميركية بعد عودته قائلًا: "لقد طلب مني أحد الشجعان في الدول الخليجية قائلًا: أرجوك ساعد أبناء غزة فانت تستطيع فعل ذلك، فقلت له ماذا تقصد قال لي إنهم يتضورون جوعا).

والواضح أن الشجاع الذي طلب من ترامب - بعد أن سلّمه مليارات الدولارات - مساعدة أبناء غزة، لم يجرؤ أن يقول له إنهم يُبادون يوميًا بالمئات، فقد اكتفى بالقول إنهم يتضورون جوعًا، حرصًا منه على مشاعر داعية السلام المجرم ترامب! الذي لم تحرك ضميره وإنسانيته مناظر شواء الأطفال في قطاع غزة بالقنابل الأمريكية المدفوع ثمنها من الأموال العربية!

لكن كيف يمكن لكتلة الإجرام الطاغية ترامب أن يكون له ضمير أو بقية من إنسانية، وهو ذاته من أعلن رغبته في إخلاء قطاع غزة من سكانها وتحويلها إلى منطقة سياحية استثمارية، كما وصفها بـ"ريفيرا الشرق"! فما يهم ترامب وما يعنيه في نهاية المطاف هو إخلاء قطاع غزة من سكانه، وهو لن يهتم بالوسيلة، سواء كانت تهجيرًا طوعيًا أو موتًا جوعًا وعطشًا، فالأمر لا يعنيه فمن سيُهجّر عرب ومن سيموت عرب، وهذا المجرم النازي الوقح غير معني مطلقًا سوى بتحقيق أجندته، التي تخلو تمامًا من أبسط القيم الإنسانية.

ورغم أن كتلة الإجرام وداعية السلام المجرم ترامب زعم ويزعم أنه لو كان موجودًا في البيت الأبيض ما كان للسابع من أكتوبر أن يحدث! وأنه لو كان موجودًا ما كانت الحرب الروسية الأوكرانية لتندلع، وإلى آخر ذلك من مزاعم الشيطان الأكبر، وهو إذا كان لا يهتم لسفك الدم الفلسطيني، فإنه يعلن دائمًا حرصًا شديدًا على الدم الأوكراني، لكن ذلك الحرص مقرون بضرورة حصول إدارته على موارد الطاقة الأوكرانية، فليس الأمر متعلقًا حصرًا ودائمًا بجوانب إنسانية.

وما يؤكد استخفاف المجرم ترامب واستهتاره بما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية تنفيذًا لخطة بديلة لخطة التهجير الطوعي، أنه في القصف الأخير الذي تعرضت له العاصمة الأوكرانية كييف، وأدى إلى سقوط سبع ضحايا من المدنيين، حينها عبر المجرم ترامب عن حزنه وسخطه الشديد وادانته لذلك الفعل وأنه يفكر جدياً في فرض عقوبات على بوتين!

أما حين يتعلق الأمر بمئات من المسلمين من أبناء الشعب الفلسطيني، فإنه لا يعلق على ذلك مطلقاً! لكن كيف له أن يعلق وهو صاحب الفكرة وصاحب الخطة! فالمطلوب من النخبة السياسية والإعلامية والأكاديمية عرباً ومسلمين فضح خطة المجرم ترامب، وعدم الاكتفاء بالسير وراء الماكينة الإعلامية التابعة للأنظمة الوظيفية العربية الخليجية تحديداً، التي تروج مساء وصباحاً لوهم الخلافات بين ترامب ونتنياهو وللضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية على الأخير! وأن يبينوا للرأي العام العربي والإسلامي والعالمي أن نتنياهو أداة تنفيذ لخطة ترامب، وأن لديه سلطة تقديرية واسعة في اختيار وسيلة التنفيذ، ومن ثم يجب عدم الخلط بين الهدف من الجريمة، الذي يتفق فيه المجرم نتنياهو مع المجرم ترامب، ووسيلة تنفيذها التي يمكن أن يطفو على السطح بعض الخلاف حولها، لكنه ليس خلافاً جوهرياً، بل مرحلياً تكتيكياً لتجاوز ما قد يبرز على السطح من اختلاف شكلي بين المخطط للجريمة والمنفذ لها.

كتلة الإجرام وداعية السلام المجرم ترامب لا يكف عن أسلوب الابتزاز، الذي يعد جريمة، ولا يكف عن التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية، الذي يعد وفقاً لأحكام القانون الدولي جريمة، كما ورد ذلك في الفقرتين (3 و 4) من المادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة بنصهما على أن: (3. يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر. 4. يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد "الأمم المتحدة".) والمثال الصارخ تلك التهديدات التي يوجهها المجرم ترامب صباحاً ومساءً وفي كل وقت وحين، وأكابر مجرمي إدارته للجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي سبق له أن نقض من جانب واحد في بداية فترة ولايته السابقة اتفاقاً موقعاً معها، وها هو يعود اليوم للتهديد باستخدام القوة رغم أنه في حالة تفاوض مع الجمهورية الإسلامية، للتوصل إلى اتفاق جديد يقيد برنامجها النووي بالاستخدام السلمي المدني للطاقة النووية وعدم تجاوز ذلك إلى الاستخدام العسكري.

ويسعى في هذا المقام حصر مظهر إجرام الطاغية ترامب سواء فيما يتعلق بخليج المكسيك الذي يريد تغيير تسميته إلى خليج أمريكا، أو قناة بنما التي يريد تغيير مسماها إلى قناة أمريكا، أو ضم كندا لتصبح الولاية رقم (51)، أو مرور السفن الأمريكية التجارية والعسكرية من قناة السويس دون دفع أي رسوم، وغير ذلك مما يتعلق بابتزاز دول العالم في ما يتعلق بالتعرفة الجمركية أو غيرها من الذرائع. فكيف لكتلة إجرام مثل ترامب أن يكون داعية سلام؟

*المقال يعبر عن رأي الكاتب
*المسيرة نت