المعركة قادمة.. هل تختار مصر طريق صنعاء أم مصير دمشق؟
السياسية || محمد محسن الجوهري*
لم يعد الصمت مجديًا، ولم يعد بالإمكان الاحتماء بالحياد أو التعويل على "العقلانية" الدولية في عالم تحكمه المصالح العارية من القيم. مصر، بما تمثله من عمق استراتيجي وقوة بشرية وعسكرية، لم تكن يومًا على هامش الصراع، وإن بدت كذلك في سنوات سابقة. ومن الوهم الاعتقاد أن ما يحدث حولها معزول عن مستقبلها، أو أن النار التي أحرقت المشرق لن تطال الضفة الغربية لنهر النيل.
منذ عقود، تبنّت دمشق خيار التهدئة. التزمت بعدم الرد على الغارات الإسرائيلية، ولم تصعّد أمام الانتهاكات المتكررة لسيادتها. راهنت على الزمن، وعلى معادلات إقليمية ودولية ربما تعيد الأمور إلى نصابها. لكن النتيجة كانت مدمرة. حين قررت القوى الكبرى تفكيك سورية، لم يكن هدوءها شفيعًا لها. تهاوت المدن، وتفكك الجيش، وأصبح القرار بيد الخارج. الصمت لم يحمِ الدولة، بل عرّاها، وهيأ الأرضية لاقتحامها من الداخل وتفجيرها طائفيًا ومناطقيًا.
وعلى النقيض، كان اليمن – رغم فقره وتشرذمه – مثالاً على معادلة أخرى. لم ينتظر أن يصل الخطر إلى عمقه، بل واجهه بوسائل متاحة وقرارات جريئة. في مواجهة الحصار والقصف والعدوان، تحولت صنعاء إلى مركز ثقل، ونجحت في نقل المعركة إلى خصومها، حتى اضطرت قوى عظمى إلى إعادة حساباتها، بل وطلب التهدئة. "إسرائيل" نفسها، التي لم تعبأ يوماً إلا بتفوقها الجوي والأمني، اضطرت إلى إغلاق مطارها الأكبر، وفرضت على ملايين من سكانها النوم في الملاجئ، ليس من جيوش نظامية، بل من رجال قرروا أن الاستسلام ليس خياراً.
هذه المقارنة ليست دعوة إلى المغامرة، ولا تبشيراً بالحرب، لكنها تذكير صارم بحقائق الجغرافيا والتاريخ. الدول لا تحمى بالحياد وحده، بل بموقعها في المعركة. والمخاطر التي تتربص بمصر لا تحتاج إلى بصيرة ثاقبة لرؤيتها. الحصار غير معلن، لكن آثاره ملموسة. الضغوط تتزايد، والتدخلات تزداد فجاجة، ومحاولات تقويض الداخل تسير بثبات. فهل تنتظر القاهرة أن يُكتب لها السيناريو ذاته الذي كُتب لسورية؟ أم تستبق اللحظة بموقف يصنع توازنًا، ولو من موقع غير مباشر؟
المواجهة لا تعني دائمًا إطلاق النار، لكنها تعني وضوح الإرادة. أن تُعلن مصر – بالفعل لا بالتصريحات – أنها ليست ساحة انتظار، ولا بوابة عبور لمشاريع الآخرين. وأن بقاءها ليس مرهونًا بالتكيف مع الضغوط، بل بالقدرة على صياغة رد استراتيجي، يحصّن الداخل، ويوصل رسالة للخارج مفادها أن القاهرة ليست الحلقة الأضعف.
إن النهوض بالموقف المصري لا يبدأ بالحرب، بل بإعادة تعريف الأولويات، وكسر منطق التبعية، والانفتاح على خيارات متعددة لبناء قوة إقليمية حقيقية، تُعيد لمصر دورها الطبيعي كقلب الأمة النابض، لا كجزء صامت من جسد تائه. السكوت عن الإهانات المتكررة، وغضّ الطرف عن التحالفات الموجهة ضد الأمة، والتعامل مع فلسطين كعبء لا كقضية مركزية، سيؤدي في نهاية المطاف إلى تفريغ مصر من مضمونها، وتقديمها لقمة سائغة في مشهد إعادة التشكيل القادم.
كما ليس من الحكمة أن تظل مصر رهينة لتحالفات إقليمية قائمة على المال لا على المبدأ، تقودها عواصم خليجية لم تعد تملك قرارها، بل تدار من غرف واشنطن وتل أبيب. فالتبعية لهذه الأنظمة، التي هرولت للتطبيع وقدّمت الولاء السياسي قبل حتى أن يُطلب منها، لا تخدم الأمن القومي المصري، بل تقيده ضمن حسابات لا تعبأ بمصالح الشعوب، ولا بتاريخ الأمة.
لقد آن لمصر، بثقلها الحضاري والسياسي، أن تتعامل مع محيطها من موقع الندّ، لا التابع، وأن تعيد تموضعها وفق ما تمليه مصالحها العليا، لا وفق إملاءات من يرتهن قراره لرضا البيت الأبيض. فالدولة التي حرّرت سيناء بدم أبنائها لا يليق بها أن تنتظر "إذنًا" من أحد لتتحرك أو تصمت. السيادة لا تُستعطى، بل تُنتزع.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب