السياسية || محمد محسن الجوهري*

عندما تكتب جماعة الإخوان تاريخ اليمن، فإنها لا تسرد وقائع بل تُعيد صياغة الحوادث وفق رؤيتها وأهدافها. إن كتب التاريخ التي تُدرَّس في اليمن منذ عام 1962 كُتبت إلى حد بعيد بيد عناصر مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، الجماعة التي يزعم البعض اليوم أنها على خلاف مع الأنظمة الخليجية، رغم أنها كانت لعقود حليفًا وثيقًا لملوك السعودية والإمارات، وذراعًا فاعلًا في نسج كثير من المؤامرات التي أضرت بالمنطقة، واليمن على وجه الخصوص.

في عام 1948، لم يكن اغتيال الإمام يحيى حميد الدين مجرد حادثة عابرة، بل كان لحظة مفصلية في تاريخ اليمن، تكشّف لاحقًا أن المحرك الأساسي وراءها لم يكن سوى جماعة الإخوان المسلمين. فالفضيل الورتلاني، مبعوث حسن البنا غير الرسمي، لم يدخل اليمن لاجئًا سياسيًا كما زُعِم، بل جاء بمهمة سرية لاختراق النخبة السياسية اليمنية، بالتعاون مع شخصيات مثل عبدالله الوزير الذي تؤكد شهادات متعددة، منها ما نقلته زوجته، أنه كان عضوًا فاعلًا في التنظيم.

الدستور المعلن عقب الاغتيال لم يكن ثمرة لحظة ثورية شعبية، بل صيغة أُعدت مسبقًا داخل أروقة التنظيم، كتبها الورتلاني نفسه، الذي نجح في أن يتحول من شخصية دخيلة إلى صانع قرار. لكن ما أفسد المخطط لم يكن وعيًا سياسيًا داخليًا، بل تحركًا عسكريًا قبليًا مضادًا، أعاد السلطة إلى يد الإمام أحمد.

وما جرى في اليمن لم يكن استثناءً، بل هو نموذج مكرر في سلوك الجماعة عبر العالم العربي. ففي سورية، لعب الإخوان دورًا خفيًا في زعزعة الاستقرار السياسي منذ خمسينيات القرن العشرين، وكان أبرز تجليات ذلك تمرد حماة عام 1982، حين تحولت الجماعة من العمل السياسي إلى تشكيل "الطليعة المقاتلة"، التي نفذت عمليات اغتيال وتفجير استهدفت رموز الدولة، ما تسبب في واحدة من أعنف المواجهات الداخلية في تاريخ سورية الحديث.

وفي مصر، تورط التنظيم في عدة محاولات لاغتيال قيادات سياسية منذ عهد الملك فاروق، منها محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954، وهي الحادثة التي كشفت عمق البنية السرية المسلحة للتنظيم، والتي كانت تعمل بتوجيه مباشر من قيادات التنظيم الدولي، وليس مجرد تفاعل محلي.

أما في ليبيا، فقد استفادت الجماعة من حالة الفراغ التي أعقبت سقوط نظام القذافي عام 2011، فتغلغلت في مؤسسات الدولة عبر ذراعها السياسية، وتحالفت مع ميليشيات مسلحة لبسط النفوذ على العاصمة طرابلس، ما قاد إلى صراع دموي مع القوى الوطنية الأخرى، ولا يزال أثره قائمًا حتى اليوم.

وفي تونس، استغلت حركة النهضة (فرع الإخوان هناك) الثورة لتحقيق تمكين سياسي سريع، لكنها وُجهت باتهامات متكررة باستغلال القضاء والمؤسسات الأمنية في تصفية خصومها، وكان لافتًا ارتباط عدد من قياداتها بشبكات تسفير الشباب التونسي إلى ساحات القتال في سورية وليبيا.

كل هذه الشواهد تقود إلى خلاصة واحدة: أن جماعة الإخوان، رغم تنوع خطابها الخارجي من بلد إلى آخر، تتبع نموذجًا موحدًا في التغلغل عبر النخبة، والاستحواذ على المؤسسات، ولو عبر العنف والتآمر والانقلابات الناعمة أو الصريحة. فالمسألة ليست قضية "إصلاح"، بل مشروع شمولي عابر للحدود، يعمل تحت عناوين دينية جذابة، لكنه يهدف في جوهره إلى اختطاف القرار السيادي للدول وإخضاعه لتوجيه خارجي.

وهكذا، فإن حادثة اغتيال الإمام يحيى لا تُفهم إلا في سياق أوسع من تدخل الجماعة في شؤون الدول العربية، ومحاولاتها المستمرة لاختراق الأنظمة السياسية وإعادة صياغتها على النحو الذي يخدم مشروعها. وما تبقى من تلك اللحظات الدامية، ليس مجرد درس في التاريخ اليمني، بل إنذار دائم من خطر التنظيمات العابرة للسيادة، حين تُفتح لها الأبواب باسم الدين، أو الإصلاح، أو الحرية.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب