استحمار "الجزيرة".. صناعة الوهم وتهذيب الإدراك في عصر الهيمنة الإعلامية
السياسية || محمد محسن الجوهري*
منذ انطلاقتها في تسعينيات القرن الماضي، روّجت قناة "الجزيرة" لنفسها بوصفها المنبر الذي يكسر الصمت، ويمنح الكلمة لمن لا صوت له. ظهرت كأنها صرخة حرة في صحراء الرقابة، ترفع شعار "الرأي والرأي الآخر"، وتتبنى قضايا الشعوب ضد استبداد الأنظمة. لكن مع الزمن، ومع تكرار الرسائل والخطاب وتماهيه مع مواقف سياسية معلنة أو مستترة، بدأ يتكشف قناع التحرر، ليتبدى وجه آخر: وجه مشروعٍ لإعادة تشكيل الإدراك الجمعي العربي، لا تحريره. فهل نحن أمام إعلام مستقل، أم أمام آلة ناعمة لإنتاج وعي مشروط؟
لا تخلو شعارات الحرية من جاذبية، لكنها جاذبية مصمّمة بإتقان. فبينما تتصدر تغطية مكثفة لأحداث معينة في دول بعينها - مصر، السودان، تونس - نجد صمتًا أو تهميشًا عن قضايا أخرى، لا تقل أهمية أو شرعية، كحراك البحرين أو قمع الأصوات داخل قطر نفسها. هذه الانتقائية ليست خطأً عرضيًا، بل جزء من بنية تحريرية تقوم على تراتبية مخفية: مَن يستحق الظهور؟ مَن يُجدر به أن يُنسى؟
وحين يتعلّق الأمر بفلسطين، تتبنى الجزيرة خطابًا مزدوجًا. فهي تتماهى مع نبض الجماهير، لكنها في الوقت ذاته تُكرّس اختراقًا خفيًا للوعي من خلال استضافة متكررة لشخصيات صهيونية تحت ستار "المهنية". ليست القضية هنا في استضافة الخصم، بل في تطبيع حضوره الخطابي، وفي تقديمه كطرف طبيعي في معادلة تُفترض فيها المقاومة. فهل يمكن لمنبر يدّعي الانحياز للحق أن يمنح منصته لمن يُبرر الإبادة؟ أين ينتهي "الرأي الآخر"، وأين يبدأ التواطؤ الرمزي؟
لكن الأخطر من كل هذا ليس فيما يُقال، بل في الكيفية التي يُقال بها. تُمارس الجزيرة تلاعبًا دقيقًا بالمفاهيم؛ حيث تُمنح بعض القوى صفة "الثوار"، فيما تُدمغ قوى أخرى بـ"الانقلابيين" أو "الميليشيات"، ليس بناءً على معيار تحرري، بل بحسب صدى تلك القوى في ميزان السياسة القطرية. تُقدَّم جماعات بعينها، كالإخوان المسلمين، بوصفها المظلومة المناضلة، بينما تُقصى سرديات أخرى لا تتوافق مع الخريطة الجيوسياسية للدوحة.
وتُستخدم أدوات السرد المرئي والعاطفي بذكاء بالغ: موسيقى حزينة، مشاهد مأساوية، تعليقات صوتية مشحونة... كل ذلك لا لنقل الحقيقة، بل لاستدراج المشاهد إلى نفق عاطفي يفقد فيه توازنه النقدي. إنها ليست مجرد تغطية للأحداث، بل إعادة إخراجها ضمن قالب يُنتج استجابات شعورية محددة، ويُرسّخ تصورات انتقائية عن الضحية والجاني.
الإشكال لا يقف عند حدود المنصة، بل يمتد إلى المتلقي ذاته. فالمشاهد العربي، الباحث عن ملاذ إعلامي يثق به، غالبًا ما يقف أمام الجزيرة كما يقف المتدين أمام منبر الوعظ: بتسليم وانفعال. وبينما تنهار مؤسسات إعلامية أخرى في المنطقة، تبدو الجزيرة متفوقة تقنيًا، لكنها تُسخر هذا التفوق لا لفتح الأفق، بل لتغليفه. إنها تمنحك وهم الحرية، بينما تُملي عليك زاوية الرؤية، وحدود التساؤل، ومَن يستحق التعاطف، ومَن لا.
الجزيرة ليست استثناءً، لكنها النموذج الأكثر براعة في حقبة تحوّل فيها الإعلام إلى سلاح رمزي. لا تمارس الكذب المباشر، بل انتقاء الحقيقة؛ لا تفرض القمع، بل تُعيد برمجة الإدراك في صيغة عاطفية جذابة. الاستحمار هنا ليس ناتجًا عن الجهل، بل عن تواطؤ بين منصة تُجيد التلاعب، وجمهور يريد أن يصدق أنه يرى الحقيقة كاملة.
في النهاية، لا تكمن خطورة الجزيرة فيما تُظهره، بل فيما تُخفيه تحت لافتة "الشفافية". إنها تُنتج وهمًا معرفيًا مكتمل البناء: شاشة تُقنعك أنك تُفكر، بينما هي تفكر نيابة عنك.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب