من الهند إلى جنوب أفريقيا... شواهد على أهمية سلاح المقاطعة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
أمام ما نراه من إجرامٍ صهيوني في غزة على مدى عشرين شهراً فإن من المعيب والمخجل أن تستمر الشعوب في دعمها للكيان الصهيوني بشراء المنتجات الداعمة له، فأقل القليل وأضعف الإيمان أن نوّظف سلاح المقاطعة الاقتصادية، وهو سلاح فعَّال وسهل وبمتناول الجميع، كما أنه فريضة جهادية ممكنة ولا عذر لأحد في تركها، فـ"إسرائيل" ومن خلفها قائمة على الهيمنة الاقتصادية قبل الهيمنة المسلحة، وحتى لو لم يكن للأمر أي تأثير فإنه مظهر من مظاهر الرفض لما يحدث في غزة، فكيف إذا عرفنا أنه سلاح عملي مؤثر وله أضرار واسعة على أعداء الأمة.
منذُ عام 1920، حين دعا المهاتما غاندي أمتَه إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية إثر فرض الضرائب الجائرة على القطن والملابس، استبدل الهنودُ صوف إقليمهم بالصوف الإنجليزي، فلم يعد سوق المستعمرين يدرّ الأرباح المتوقعة، وخسرت بريطانيا خلال سنوات المقاطعة الأولى وحدها ما يزيد على 80 مليون روبية هندية. هذا التأثير الاقتصادي كان رافعةً لرفع الهمم وتجميع الصفوف، حتى باتت مكابحُ الاستعمار تعاني عجزًا مميتًا، وأُجبر المشرّع البريطاني على التراجع عن السياسات القمعية قبل أن يُمنح الهنود استقلالهم رسمياً في 15 أغسطس 1947.
وفي جنوب أفريقيا، نُسجت خيوطُ نصرٍ مماثلٍ ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتيد)، إذ تبنّى ناشطون سود وجماعات مكافحة العنصرية حملة "لا أعمال في جنوب أفريقيا" التي انطلقت في منتصف ستينيات القرن الماضي، حتى شملت مُقاطعة جميع البضائع والاستثمارات من وإلى جنوب أفريقيا. وتوضح الإحصاءات أن حجم الصادرات الانكماشي لجنوب أفريقيا بلغ نحو 5.3 مليار دولار بين 1986 و1989م، مقارنةً بـ 8.4 مليار دولار في عام 1980، هذه الضغوط الاقتصادية دفعت قيادة الأبارتيد للتفاوض مع نيلسون مانديلا وقادة الحركة المناهضة للأبارتيد، ومع إعلان نهاية الفصل العنصري رسميًا في عام 1994، أقرّ البرلمان الجنوبي أفريقي إلغاء جميع القوانين التمييزية.
إذا انتقلنا إلى القضية الفلسطينية اليوم، نجد أن جيش الاحتلال لا يكتفي بالاحتلال العسكري فحسب، بل يقومُ على دعم اقتصادي كبير من مستهلكين في العالم العربي والإسلامي، سواء عبر شراء منتجات إسرائيلية مباشرة مثل الفواكه والمواد الغذائية (حسب تقرير وزارة الزراعة الإسرائيلية، 2023)، أو عبر ألعاب إلكترونية وتجهيزات تقنية لشركات كبرى تستثمر في شركات عسكرية إسرائيلية دون علم الكثيرين (تقرير "Breaking the Silence"، 2024). فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة "سيمينس" الألمانية في مايو 2023 انسحابها التدريجي من جميع المشاريع التي تتواجد في هذه المستوطنات، وذلك بعد حملة مقاطعة عالمية نظّمها ناشطون فلسطينيون وأوروبيون (بيان رسمي للشركة، مايو 2023). ولعلّ هذا الدليلُ الأقوى على أن قرار المستهلك الفردي قادرٌ أن يحدثَ شرخًا في بنية الاقتصاد الصهيوني، الذي يرى في كل دولار "يتدفّق" من الأسواق العربية صاعقَا يمكّنه من الاستمرار في مشاريع الاستيطان والبناء العسكري.
ومع كل قنبلة تُلقى على غزة، ومع كل مستوطنة تُبنى على أنقاض قرية فلسطينية، هناك مال يُضخ من جيب مستهلك في مكانٍ ما. الاحتلال لا يقف وحده، بل يقف على أكتاف ملايين يُنفقون – ولو دون قصد – على آلة ظلمه.
إن ديننا الإسلامي العظيم لا يقف صامتًا أمام الظلم، بل يجعل مقاومته فريضة، ونصرة المظلوم واجبة. بل إن السكوت عن الظالم أو إعانته بأي شكل يُعد خيانة. قال تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار﴾، وقال أيضًا: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾. فهل بعد هذه الآيات عذرٌ لمن يشتري ما يُعين العدو على قتل إخوانه؟! إن المقاطعة – في هذا السياق – ليست عملًا تطوعيًا، بل عبادة وجهاد، هي فرض عين على كل فرد مسلم يستطيع أن يمتنع، ولو عن شراء قطعة شوكولاتة تذهب أرباحها لمن يقتل أطفالنا.
قد يقول البعض: "وهل ستؤثر مقاطعة فرد واحد؟" والجواب: نعم. بل يبدأ التغيير من الفرد، ومن ثم الأسرة، فالمجتمع، حتى تتحرك الأمة بأسرها. ألم يؤثر غاندي في أمة بأكملها؟ ألم ينجح السود في جنوب أفريقيا لأنهم آمنوا أن المقاطعة سلاح؟ واليوم، حتى الاحتلال نفسه يعترف بأن حملات المقاطعة تؤذيه، وأن الشركات العالمية بدأت تراجع استثماراتها فيه خوفًا من حملات الضغط الشعبي، فكيف نستصغر فعلاً يرعب العدو؟
* المقال يعبر عن رأي الكاتب