الخليج الصهيوني.. الإمارات وخطرها على الأمن القومي العربي
السياسية || محمد محسن الجوهري*
لم تعد الإمارات اليوم مجرد دولة خليجية صغيرة تسعى للنمو الاقتصادي أو السياحي، بل تحوّلت إلى لاعب إقليمي طموح يستثمر موارده النفطية الضخمة لبناء شبكة معقدة من الحلفاء والوكلاء في مختلف أرجاء العالم العربي، ليس لدعم الاستقرار كما يروج إعلامها، بل لزعزعته على نحو متعمد ومنهجي. فالدور الذي باتت تلعبه أبو ظبي في المنطقة يتجاوز بكثير حدود النفوذ الناعم، ليصل إلى حدود الاختراق العسكري والسيطرة السياسية، وتغذية النزاعات الداخلية في عدد من الدول العربية، وكل ذلك في سبيل ترسيخ نفوذها وضمان مصالحها الضيقة حتى وإن كان الثمن هو تمزيق المجتمعات وتفتيت الدول.
في اليمن، مثلًا، شاركت الإمارات في العدوان العسكري إلى جانب السعودية تحت مظلة "التحالف العربي"، لكن سرعان ما ظهرت أجندتها الخاصة المنفصلة عن هدف دعم "الشرعية" المزعوم. ركزت تدخلاتها على احتلال الموانئ الاستراتيجية مثل عدن والمكلا والساحل الغربي، واستولت على جزيرة سقطرى ذات الموقع الجيوسياسي الفريد، وأقامت هناك قواعد عسكرية ومقار استخباراتية. كما أنشأت ميليشيات محلية تدين لها بالولاء، كقوات النخبة الحضرمية والحزام الأمني، متجاوزة بذلك مؤسسات الدولة اليمنية. وتُظهر تحركاتها بوضوح أن الهدف الأساسي لم يكن سوى تأمين باب المندب وممرات الملاحة الدولية، لا سيما تلك التي تستفيد منها "إسرائيل"، في تجاهل تام لمعاناة الشعب اليمني الذي يعاني من أسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث.
أما في السودان، فقد لعبت الإمارات دورًا خفيًا لكنه فعّال في تأجيج الصراع، من خلال دعمها السخي لقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي. ورغم توقيع الخرطوم اتفاقًا لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، استمرت أبو ظبي في تمويل وتسليح هذه القوة الخارجة عن سلطة الدولة، ما ساهم في تفجر الحرب الأهلية، وجر البلاد إلى نفق مظلم من الانقسامات والانهيار. لقد أضحى واضحًا أن أبو ظبي لا تدعم حكومة السودان بقدر ما تسعى إلى تمكين جماعات موالية لها، حتى لو كان ذلك على أنقاض الدولة الوطنية.
وفي ليبيا، يتكرر المشهد نفسه. فمنذ بداية الصراع الليبي بعد سقوط القذافي، قدمت الإمارات دعمًا عسكريًا واسع النطاق للواء خليفة حفتر، وخرقت بذلك قرارات الأمم المتحدة بشأن حظر السلاح المفروض على البلاد. جاء الدعم في صورة طائرات مسيّرة وأسلحة ثقيلة ومستشارين عسكريين، وكانت النتيجة إذكاء نار الحرب الأهلية وتعقيد جهود التسوية السياسية. لا يمكن تفسير هذا التدخل إلا باعتباره سعيًا إماراتيًا للهيمنة على الموارد النفطية لليبيا، وإحباط أي تجربة ديمقراطية يمكن أن تُلهِم شعوبًا أخرى في المنطقة.
حتى في الصومال، الدولة الفقيرة التي خرجت لتوها من عقود من الحرب والفوضى، وجدت الإمارات لنفسها موطئ قدم. فبدل دعم الحكومة المركزية في مقديشو، اتجهت أبو ظبي إلى تمويل "جمهورية أرض الصومال" الانفصالية في الشمال، ووقّعت معها اتفاقيات لإدارة موانئ ومرافق بحرية، في تجاهل تام لوحدة الدولة الصومالية. ويبدو أن الإمارات تركز اهتمامها الاستراتيجي على منطقة القرن الإفريقي بسبب موقعها الحساس عند باب المندب، ما يجعلها نقطة جذب لكل من يسعى للسيطرة على حركة التجارة العالمية.
في سياق استراتيجيتها التوسعية التي تتسم بالتدخل الناعم والخشن على حد سواء، دخلت دولة الإمارات مؤخراً في صراع إعلامي وسياسي غير مباشر مع الجزائر، اتضح من خلال الحملات الدعائية المتبادلة، والتسريبات المتكررة حول دعم إماراتي مشبوه لجهات تُعادي الموقف الجزائري، خاصة في ملف الصحراء الغربية. وقد أشارت تقارير متعددة إلى دعم أبو ظبي للمغرب في هذا النزاع، وهو ما تعتبره الجزائر مساساً بوحدتها الإقليمية وموقفها التاريخي المناصر لتقرير المصير. كما تداولت مصادر دبلوماسية معلومات عن اتصالات إماراتية مع أطراف في تشاد يُعتقد أنها تهدف إلى تحريك أوراق حدودية وأمنية قد تزعزع استقرار الجنوب الجزائري، الذي يُعد منطقة حساسة واستراتيجية.
التحول الأخطر جاء عام 2020 حين وقّعت الإمارات اتفاق "أبراهام" للتطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، لتصبح أول دولة خليجية تُقدِم على هذه الخطوة علنًا وبدون شروط. لم يكن الاتفاق فقط خيانة للقضية الفلسطينية، بل بوابة لاندماج استراتيجي شامل مع "إسرائيل" يشمل التعاون الأمني والتكنولوجي والاقتصادي، ويمنح تل أبيب موطئ قدم في العمق العربي. في الوقت الذي كانت فيه غزة تحترق تحت القصف الإسرائيلي، كانت الوفود الإماراتية تتبادل الابتسامات والصفقات مع قادة الاحتلال.
ولا تزال فضائح التدخلات الإماراتية تتكشف يوماً بعد آخر، وكلها موجهة ضد الدول العربية والإسلامية بهدف تمزيقها خدمةً لأهداف صهيونية بحتة حيث لا مصلحة لأي طرف آخر في تلك الفوضى غير الخلاقة، ولا مجال لوقف الإرهاب الإماراتي إلا بإرهاب مضاد وتمويل تدخلات تضرب الاقتصاد الإماراتي وتحد من قوتها المالية التي تمول كل ذلك الخراب في البلاد الإسلامية، ويكفي أن ندرك أن الاقتصاد الإماراتي، رغم مظاهره البراقة، يقوم في جوهره على بيئة شديدة الحساسية للاستقرار، ولا يملك مناعة حقيقية أمام الفوضى أو التهديدات الأمنية الممتدة. ولأن جماعة الإخوان تمثل الهدف الأبرز لحملات الاستئصال الإماراتية، فإنها، بحكم ذلك، تُعد الطرف الأكثر منطقية في تحمّل مسؤولية الرد إن كانت جادة في الدفاع عن وجودها وكسر دائرة الترهيب التي فُرضت عليها.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب