السياسية || محمد محسن الجوهري*

في مسيرة التاريخ الإنساني، لا تزال مسألة الحرية والكرامة تتربع على عرش أولويات الشعوب التي تسعى للبقاء والازدهار، خاصة حين يغيب العدل ويحكم الطغاة. وتشكو الشعوب العربية، أكثر من سواها، من واقعٍ مريرٍ من القمع والتسلط، ومن غياب أفق التداول السلمي للسلطة، حيث تتحول الحياة إلى مسرح للمكائد السياسية والصراعات الداخلية التي تبعد الأمة عن دورها الحقيقي كحاملة لرسالة الخلاص والعدل.

وهذا الواقع المؤلم ليس سوى حصاد سنواتٍ من الانحراف عن المبادئ الأساسية التي قامت عليها رسالة الإسلام، وأولى هذه المبادئ قضية الولاية الشرعية التي جسدها وأكدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

إن علي بن أبي طالب ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو رمزٌ للولاية الحقة التي تحفظ للأمة عزتها وكرامتها، وتمنحها القوة على مواجهة عواصف الزمن. فقد كان عليه السلام الوريث الشرعي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وامتدحه القرآن الكريم في مناسبات عدة كأحد أعظم أعمدة الإسلام. بقلوب رحيمة وسعة صدرٍ تكاد تحتضن كل البشر، قاد علي الأمة في فترة لم تعرف فيها الحرية معنى التشويه، بل كانت تجربة ديمقراطية نادرة التحقق في عالم مليء بالظلم والجور. كان يحكم بالعدل والمساواة، محملاً هم الأمة ومصالحها، لا ينحاز لأحد على حساب أحد، وإنما للحق والعدل فقط. في عهده، عاش الناس حياة تتسم بحرية الفكر والرأي والحق في التعبير، وهو ما لم يشهده التاريخ من قبل، ولا بعد.

لكن، وللأسف، عادت الأمة عن هذا المنهج، وأبعدت عن قلوبها هذا النموذج القيمي الرفيع، فتنازلت عن ولاية الحق لصالح الطغاة والظلمة، وفتحت بذلك أبواب القهر والاستبداد على مصاريعها. حكم الطغاة تعاقب على عروش البلاد، وسادت الفوضى السياسية والاجتماعية، حتى صار العرب عبرةً في عالم يتطلع إلى الحرية والعدل. لم يكتفِ خصوم علي بقمع المسلمين وتحريف عقائدهم، بل دفعوا الأمة إلى تبعية مستمرة، وسلموا مواردها وثرواتها لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى، فانتشرت مظاهر الإقصاء والتهميش، وأصبح العرب غرباء على أرضهم في بلدانهم.

هذا الانحراف الجوهري عن منهج الولاية الشرعية هو أصل كل ما نعانيه من أزمات سياسية واجتماعية وثقافية، فهو يشكل تهديدًا وجوديًا للأمة، ولا سبيل للخلاص منه إلا بالعودة إلى جوهر الرسالة القرآنية، والقيادة التي تنسجم مع تعاليم أهل البيت عليهم السلام. هنا، في ظل هذه القيادة، تنهض الأمة متجددة، قوية، قادرة على مواجهة أعدائها، ومتمسكة بحقوقها، لا تخشى على مستقبلها ولا على إرث أجدادها.

وليس الأمر مجرد قضية دينية أو عقائدية، بل هو نظام حياة متكامل يعزز العدالة، ويكرس حرية التعبير، ويحقق التوازن بين الحقوق والواجبات. من خلال ولاية علي وذريته، تتأسس الأمة على قيم السمو والكرامة، فتعانق الحرية الحقة، وتعيش في ظل دولة تحكم بالعدل وتضمن حقوق جميع أفرادها، دون تمييز أو ظلم. فقد كانت فترة حكمهم مثالاً ساطعاً للعدل والحرية في أحلك الظروف، وشهادة التاريخ تشهد بذلك.

أما واقعنا العربي الراهن، فيكشف بوضوح نتائج الابتعاد عن هذا المسار، حيث نجد أن الحركات التي تنكر أو تعادي ولاية علي، كتنظيم الإخوان المسلمين على سبيل المثال، تعيش أزمات متتالية من القمع والتنكيل في أكثر الدول العربية، وتتحول إلى ضحايا متكررين للأنظمة المستبدة. وهذا ليس محض صدفة، بل هو انعكاس طبيعي لمنهجية فكرية تخالف طبيعة الحق والعدل، وتؤدي في النهاية إلى هوان الأمة وضعفها.

إنها مأساة عميقة ومؤلمة، لكنها ليست نهاية المطاف. فالعودة إلى ولاية علي عليه السلام وأهل بيته، هي مفتاح نهضة الأمة وإعادة بناء حضارتها على أسس القوة والعدل، وعلى قيم الحرية والكرامة التي لا تُشترى بثمن. إنه السبيل الوحيد لخلق أمة تقف في وجه الظلم، وتعيد لماضيها مجده، ولحاضرها عزته، ولأجيالها مستقبلها المشرق.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب