الإمام علي.. خلاصة النبوة وامتداد الرسالة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
عندما يُذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، لا يُستحضر كشخصية تاريخية عابرة ولا كاسم مكرور في السرديات القديمة، بل يُستدعى كحضور دائم في الضمير الإنساني، وكجذر ضارب في أعماق العدالة والوعي الروحي، ومثال نادر للتماهي بين الإنسان والقيم الإلهية. لم يكن مجرد صحابي ولا مجرد خليفة، بل كان هو التجسيد الحيّ للرسالة المحمدية حين تتجرد من المصلحة، وتتحول إلى سلوك، وإلى نور يُرى لا يُقال.
عليّ لم يكن يتكلم ليفرض رأيًا، بل كان صوته يخرج من قلب موصول بالله، ومن عقل يزن الأشياء بميزان الحق، لا بترجيحات الهوى. الفرق بينه وبين غيره ممن تسنموا مقاعد السلطة لا يكمن في الأسلوب أو الخطابة، بل في جوهر الرؤية. عليّ لم يرَ الخلافة تاجًا، بل عبئًا، ولم يرَ الحكم سلطة، بل مسؤولية تُحاسب في الآخرة قبل أن تُذكر في الدنيا. في زمنٍ تهافت فيه الكثيرون على الكرسي، وقف علي مترددًا في قبول الحكم، لا خوفًا، بل خشية أن تُظلم نفس باسمه أو يُهان ضعيف تحت رايته.
ولأن الحق لم يكن يومًا طريقًا معبّدًا، كان عليّ وحده، كثيرًا ما وقف في الضفة المقابلة للجموع، لا ليخالفهم، بل ليذكّرهم أنهم انحرفوا عن جادة الطريق. ولذا قال قولته الخالدة: "ما ترك لي الحق من صديق." فلم يبع ضميره لإرضاء الناس، ولم يساوم على مبدأ خشية من سيف أو سجن، بل بقي واقفًا في محراب الموقف، يُضيء للمظلومين شمعة، ويقطع على الظالمين طريق التزييف.
في كلماته لا تسمع مجرد خطب، بل ترى روحًا تتكلم. من يقرأ نهج البلاغة لا يقرأ كتاب سياسة، بل يدخل محرابًا من الحكمة والوجد، حيث تلتقي البلاغة بالعدالة، ويلتحم الفكر بالسلوك. عليّ لا يصف الأشياء، بل يُعرّيها؛ لا يُجامل الوقائع، بل يُواجهها بالحق وإن اشتدت العواصف. من ذا الذي قال: "والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت"؟ تلك ليست خطبة، بل مرآة لضمير نادر، يعرف أن الله يرى في الصغيرة ما لا يراه الناس في الكبيرة.
وفي مشهده الحاكم، نرى الفرق يتجلى بأوضح صوره. لم يركب البذخ، ولم يتزين بتيجان الذهب، بل وقف على المنبر بثوب مرقع، وخطب في الناس بلسان الفقير الذي لم ينسَ أنه مسؤول عن لُقمة الجائع ودمعة اليتيم. لم تكن المساواة عنده شعارًا، بل ممارسة يومية. كان يأكل كما يأكل عامة الناس، ويقضي كما يقضي أضعفهم، ويقول: "أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين ولا أُشاركهم مكاره الدهر؟"
وما يدهشك في علي ليس فقط سلوكه، بل وعيه. فهو من جمع الفقه إلى السياسة، والعبادة إلى البلاغة، والعقل إلى القلب، حتى بات مدرسة قائمة بذاتها. قال عنه جورج جرداق، المفكر المسيحي: "عليّ صوت العدالة الإنسانية، وهل تُنكر الشمس؟" ولم يكن هذا مديحًا عاطفيًا، بل اعتراف من الضمير الإنساني العام بأن عليًّا تجاوز حدود المذهب، وجعل من ذاته لغةً يفهمها كل من عرف معنى العدالة.
عليّ لم يكن بحاجة إلى جيش ليُرهب خصومه، كان يكفي أن يتكلم، حتى ترتجف قلوب المتجبرين. ولم يكن بحاجة إلى حراس ليحموا مقامه، فقد كانت قداسته الأخلاقية سورًا لا يُخترق. وحين قُتل في محرابه، لم يمت علي، بل دخل طورًا جديدًا من الحضور: صار ميزانًا للأخلاق، وسيفًا للحق في كل يدٍ تعرف إلى من توجّه خطاها.
في زمن التزييف، يصبح الرجوع إلى علي عودةً إلى النقاء الأول، إلى الإسلام كما أراده الله لا كما شكّله السلاطين. وحين نتساءل اليوم: من نكون؟ وأين نقف؟ لا نجد إجابةً أصحّ من قول علي: "اعرف الحق تعرف أهله." فعليّ هو مرآة الحق، من أحبّه أحبّ الله، ومن أبغضه جهل حتى نفسه. لا عجب إذن أن قال فيه النبي: "علي مع الحق، والحق مع علي."
سلامٌ على عليّ، في كل آنٍ، في كل وجدانٍ لا يزال يفتش عن العدالة في زمن التوحش، ويبحث عن الإنسان في زمن التصنيم. سلامٌ عليه يوم حمل السيف لأجل المظلوم، ويوم حمل القلم ليربي الأمم، ويوم خرّ ساجدًا فارتفعت روحه إلى السماء شاهدةً أن الحق لا يُقتل، بل يُخلّد.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب