الربا واليهود في أوروبا.. من الاضطهاد إلى الهيمنة وحتى الاستعمار
السياسية || محمد محسن الجوهري*
لم يكن الربا مباحاً على الإطلاق في تاريخ أوروبا المسيحية قبل هيمنة اليهود على قرارها الديني والسياسي. وقد شكّل موضوع الربا أحد أكثر المواضيع حساسية على الصعيدين الديني والاقتصادي، لا سيما حين اقترن بدور اليهود في النظام المالي الوسيط. هذا الارتباط كان له أثر عميق في التاريخ الأوروبي ومآسٍ مروعة في حياة المجتمعات الفقيرة، ففي في العصور الوسطى، جرّمت الكنيسة الكاثوليكية الربا بشكل قاطع، مستندة إلى نصوص إنجيلية تدعو إلى الإقراض دون انتظار مقابل. فقد اعتُبر أخذ الفائدة خطيئة مميتة، ومظهراً من مظاهر الجشع والاستغلال غير الأخلاقي. وبموجب ذلك، مُنع المسيحيون من ممارسة الإقراض بفائدة، إلا أن ذلك الحظر لم يشمل اليهود الذين استغلوا الأمر للإثراء من جهة، وللهيمنة على المجتمعات المسيحية من جهة أخرى.
والغريب أن اليهود يحرّمون أيضاً التعامل بالربا، لكن فقط فيما بينهم، أما مع غير اليهود فهو مباح. وهكذا، وجد اليهود في أوروبا أنفسهم أمام فرصة اقتصادية مكّنتهم من تحقيق مشاريع دينية تفوق الجشع المالي. بدأ اليهود بتقديم القروض للتجار، والفرسان، وحتى الملوك، وهو ما جعلهم ركيزة غير معلنة من ركائز الاقتصاد الأوروبي، رغم عزلتهم الاجتماعية والدينية. ومع مرور الزمن، تزايدت ديون المزارعين والبرجوازيين للنخبة المالية اليهودية، مما فاقم الاحتقان الطبقي والديني، خاصة مع فرض فوائد عالية ناتجة عن المخاطر المحيطة بالإقراض في مجتمع معادٍ.
هذا الوضع مهّد الطريق لظهور صورة نمطية عن "اليهودي المرابي الجشع"، وهي صورة فعلية تعكس الواقع الأوروبي في أغلب تاريخ أوروبا. ومن هنا، أدرك اليهود أهمية الإعلام في تلميع مشاريعهم ودورهم في إدارة الواقع الأوروبي، ولهذا بادروا إلى تأسيس الصحف الأوروبية الشهيرة مثل صحيفة العالم النمساوية (Die Welt)، والديلي تلغراف البريطانية (The Daily Telegraph)، ولو فيغارو الفرنسية (Le Figaro). وهذه عينات من أشهر الصحف الأوروبية المملوكة لليهود، وأسهمت في التخفيف من الحنق الشعبي ضدهم، وكان من دوافع إنشاء تلك الصحف، الصحوة الأدبية المناهضة للربويين اليهود، وأشهر مثال أدبي على هذا التشويه هو شخصية "شيلوك" في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير، التي صوّرت المرابي اليهودي بصورة نمطية خالية من الرحمة، لا تهمه سوى مصلحته.
ويجدر التذكير بأن اليهود، وقبل سيطرتهم على الإعلام الأوروبي، تعرّضوا للطرد ومصادرة الأموال نتيجة جشعهم المتزايد، كما حدث في إنجلترا عام 1290، وفي فرنسا بين عامي 1306 و1394. وكان الهدف منها إسقاط الديون عن المواطنين والدول، بعد أن تضاعفت نسبة الأرباح وأثقلت كاهل المزارعين والتجار، وكادت الدول أن تفلس بسبب عجز الجميع عن دفع الضرائب والإتاوات المستحقة لها.
لكن، ومع تركيز اليهود على الإعلام والصحف في أوروبا، قُدِّم الربا لاحقًا على أنه ليس خيارًا نابعًا من الجشع، بل ضرورة اجتماعية فرضها واقعٌ قاسٍ وظالم. جرى تصوير اليهود كضحايا لنظام إقصائي لم يترك لهم إلا القليل من فرص العمل المسموح بها، حيث مُنعوا من تملّك الأراضي، ومن الانخراط في سلك الكهنوت المسيحي، أو تولي مناصب في الدولة، أو دخول العديد من النقابات الحرفية، فوجدوا أنفسهم محصورين في مجالات محددة مثل الإقراض المالي والربا، وبيع الخمور، وتجارة الرهونات.
هذه الرواية الجديدة التي تبنتها الصحف اليهودية وروّجت لها عبر الأعمدة الثقافية والمقالات الاقتصادية، لم تكن محض تبرير أخلاقي، بل كانت مدروسة بعناية، تهدف إلى قلب صورة اليهودي "المرابي" إلى صورة "المجبر" على الربا، بل و"المنقذ" للاقتصاد المسيحي في أوقات الأزمات. وهكذا تحوّلت الممارسات الربوية من عبء أخلاقي إلى ضرورة اقتصادية، تبررها الحاجة وتحميها القوانين الجديدة التي بدأت تفصل تدريجيًا بين الدين والسياسة.
وقد ساعد هذا التصور الجديد في فتح الأبواب أمام مزيد من التوسع المالي لليهود في أوروبا، وتعزيز نفوذهم في مؤسسات الدولة والأسواق. كما أصبحت الصحف اليهودية وسيلة فعالة لنقل هذا الخطاب إلى النخب الثقافية والسياسية، والتأثير في الرأي العام بشكل تدريجي، بحيث تم تذويب الهوية الربوية في منظومة الاقتصاد الليبرالي الناشئة، ولم يعد من المقبول اتهام اليهود بالربا دون أن يُقابل الاتهام باتهام مضاد بمعاداة السامية.
ومع إحكام قبضتهم على دوائر السياسة وصنع القرار في أوروبا، وجَّه اليهود تلك الدول نحو احتلال العالم تحت شعار "الاستعمار"، وهو شعار يختلف في مظهره عن الحملات الصليبية التي فشلت بسبب عدائها المعلن للمسلمين، ولم تنجح في الوصول إلى عمق العالم الإسلامي، الذي قابل التعصب بالتعصب.
أما راية الاستعمار، التي رفعت شعارات التقدم والرفاه الاقتصادي، فقد نجحت في تمكين أوروبا من احتلال العالم الإسلامي بأسره، مستغلةً غريزة الجشع وعبادة المال التي تفشّت في بعض المجتمعات العربية لأسباب متعددة.
ولا تزال آثار تلك الهيمنة قائمة حتى اليوم، إذ يُعدّ الكيان الصهيوني نتاجًا مباشراً لذلك التزاوج بين النفوذ اليهودي والمسيحية المعادية للمسلمين، معتمداً في بسط سيطرته على حكّام طغاة وجشعين لا يأبهون بمصير الأمة، ما دامت مصالحهم الشخصية في مأمن، حتى ولو أدّى ذلك إلى ضياع فلسطين وإبادة شعبها.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب