تمييزُ الخبيث من الطيّب.. سُنّةٌ كاشفة ومسار تحرّري
عبدالله عبدالعزيز الحمران*
في عالم تتقاطع فيه الشعارات مع المصالح، وتُستخدم فيه القضايا العادلة وقودًا لمشاريع خادعة، تبرز حاجةٌ ملحّة إلى ما يكشف الزيف من الصدق، ويُظهِرُ الأصيل من المزيف. وهذه الحاجة ليست جديدة، بل هي متجذّرة في وعي الإنسان منذ القدم، وقد بيّنها القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} – آل عمران 179.
هذه ليست فقط سُنّة إلهية في سياق الإيمان، بل هي ناموس في مسيرة الشعوب. لا يترك الله الحقَّ والباطل متشابكَين إلى الأبد، بل تأتي اللحظاتُ الفاصلة، حَيثُ تتمايزُ الصفوف، وتنكشفُ الأقنعة، وتُعرَض المواقفُ على الناس لا بالأقوال، بل بالفعل والتضحية.
وقد كانت فلسطين – ولا تزال – حجرَ الاختبار الأهم في هذا التمييز. فمن يزعم الانحياز للحق، لا بد أن يُمتحن في موقفه من غزة، من مقاومة شعبها، ومن العدوان الذي يتعرض له أطفالها ونساؤها ومقدساتها. وهنا تمايز الخبيث من الطيب، لا بكلمات، بل بمواقف ناطقة بالدم والكرامة.
الطيّبون في زمن الانكشاف:
في ملحمة غزة، لم يعد ممكنًا الاختباءُ وراء اللُّغة الرمادية. ظهرت وجوه الخبث جليّة في أُولئك الذين صمتوا عن القتل، أَو برّروا الاحتلال، أَو اتهموا المقاومة بالإرهاب، أَو سعوا لتجريم دعمها، أَو استقبلوا الصهاينة على بساط أحمر. هؤلاء هم الخبث في أوضح صوره.
أما الطيّبون، فكانوا في اليمن المحاصَر، الذي رغم جراحه وجبهاته، أعلن بوضوح أنّه حاضرٌ مع فلسطين، لا بالكلام بل بالصواريخ والطائرات المسيّرة التي أربكت العدوّ وغيّرت معادلات البحر.
وكانوا في لبنان، حَيثُ ارتفعت رايةُ المقاومة لا كخطابٍ بل كقدرة ردع، وكموقف شريف ينسجم مع كُـلّ قِيَم العرب التي تم تدنيسها على أيدي المطبِّعين.
وكانوا في إيران، التي وإن تعدَّدت الألسن في نقدها، وقفت بموقف استراتيجي لا لَبْسَ فيه: دعم واضح ومعلن للمقاومة، وتسليح وتدريب واحتضان، وتحدٍّ مباشر لمشروع الهيمنة الصهيونية والأمريكية، لا مساومة فيه.
هذا هو التمييز الحيّ، لا في نصوص الكتب، بل في وقائعِ التاريخ التي تُكتب الآن. وبينما تتسابق أنظمة على شراء صمت العواصم، خرجت صنعاء وبيروت وطهران بكرامة لا تُشترى.
نحو وعي حضاري بالتمييز:
التمييز بين الخبيث والطيب ليس مُجَـرّدَ توصيف أخلاقي، بل هو خطوةٌ أولى نحو التحرّر الحضاري. فالأمةُ التي لا تميِّزُ بين من يقاتل؛ مِن أجلِها ومن يقاتل ضدها، تبقى تائهةً في دوامة الاستعمار الناعم. وأخطر ما يفعله الخبثاء أنهم يلبسون لبوس النصيحة، ويتحدثون بلغة الواقعية، ليطعنوا الوعي من داخله.
ولذلك فَــإنَّ مسؤوليتَنا كأحرار، كمثقفين وناشطين ومؤمنين بقضايانا، أن نُسهِمَ في هذا التمييز: أن نكشفَ الخبثَ حَيثُ يتوارى، ونُظهِرَ الطيبَ حَيثُ يُتجاهَل، ونؤكّـد أن المعيارَ في النهاية ليس ما يُقال في المؤتمرات، بل ما يُقدَّمُ في الميدان
* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت