عبدالرحمن مراد*



يسعى النظام الرأسمالي - كما يبدو من نشاطه العسكري والسياسي والثقافي - إلى الاشتغال على مفردات القوة الناعمة بكل تفاصيلها في التفاعل مع قضايا الشعوب التي يدير صراعها ويتحكم في مصائرها، ويرى في القوة الناعمة أنها الأكثر تأثيرا والأقل كلفة من القوة الصلبة، وهي في الواقع الأكثر خطرا على هويات البلدان والشعوب وثقافتها ومستقبلها، وقد رأينا أثر ذلك في العدوان على اليمن ومن ثم نراه اليوم في حقائق الموقف مما يحدث في فلسطين وبالتحديد في غزة من حرب إبادة شاملة تجرف الإنسان والحجر والشجر دون أن يتحرك للضمير الإنساني نبض أو يرف له جفن.

ولعل البعد الاقتصادي يلعب دورا محوريا في القوة الناعمة، فأمريكا تحتل المرتبة الأولى عالميا فهي تشكل عامل جذب لستة أضعاف من المهاجرين الأجانب، وهي في السياق نفسه أول وأكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية، وتتحكم بالتطبيقات لمصادر الوعي العالمي، ومن خلال التحكم بمصادر الوعي استطاعت أمريكا أن تقنع العالم بخطورة الأنظمة التحررية التي استطاعت الصمود، والاشتغال على تفكيكها، ولنا في العراق مثال حي في ذلك، فالقارئ لما وصل إليه المجتمع العراقي يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن أمريكا استطاعت اختراق المجتمع العراقي واشتغلت على إفساده.

شكلت أمريكا تحالفاً دولياً لحماية الملاحة في البحر الأحمر، وهي تدرك - وفق الكثير من المؤشرات والرموز التي يبعثها الواقع - أنها غير قادرة على الحرب الصلبة، فاضطراب البحر يهدد مصالح العالم كله، وهي في السياق لا تتوقع حسم معركتها مع اليمن في ظرف زمني وجيز، وفي نفس الوقت تعمل على حماية مصالح إسرائيل وكانت تتوقع أن تتداعى دول الإقليم لخوض المعركة بالنيابة عنها، ويبدو من ظاهر الأمر أن تجربة السنوات الماضية كانت كافية لبعض دول الجوار في التحالف العربي الذي شن حربا عدوانية ضروسا على اليمن في التفاعل مع الحلف الجديد ولكنه قد يسانده بالمال.

ما قامت به اليمن من نصرة لفلسطين كان موقفا معلنا وواضحا أنه لا يهدد إلا إسرائيل وما يمت لإسرائيل بصلة، وليس تهديدا للملاحة الدولية، فاليمن تعامل إسرائيل بالمثل من حيث قطع الإمدادات وحصارها بحريا حتى تكف عن عدوانها على غزة، وتفتح المنافذ لشعب غزة، وهذا موقف إنساني يفرضه الضمير الجمعي ويمليه على اليمن الضمير الديني، وقد وافق هذا الموقف تطلعات كل أحرار العالم الذين رأوا في موقف اليمن موقفا مشرفا يعلي من القيم العليا للعهود ومواثيق حقوق الإنسان ويعيد للضمير الإنساني الجمعي حضوره في الوجدان الإنساني.

اليمن الذي تحالف العالم عليه على مدى عقد ونيف من الزمان وشن عدوانا غاشما عليه، خرج منه أكثر قوة وصلابة وأصبح من خلال تفاعله مع القضية الفلسطينية يقدم نفسه كقوة إقليمية لا يستهان بها في المنطقة، وقد خاضت أمريكا تجربة باءت بالفشل في سوالف الأيام وتراجعت ولم تحقق أهدافها، ووفق منهج السياسة الأمريكية فهي سوف تذهب إلى خيار القوة الناعمة وهذا الرأي يذهب إليه الكثير من المحللين السياسيين، وبالتالي علينا أن ندرك خطورة المرحلة ونتعامل معها بحذر شديد ولا يعني ذلك الركون إلى القوة الصلبة في حماية مقدراتنا وانتصاراتنا بل يعني تنمية القوة الناعمة الوطنية حتى تكون في مستوى القوة الصلبة في مواجهة أمريكا وإسرائيل، فنحن اليوم أكثر ميلا في الركون على القوة الصلبة وتركنا القوة الناعمة دون رعاية أو عناية وهذا أمر يجب الانتباه له حتى لا نجد أنفسنا في معركة غير محمودة العواقب خاصة وقد توفرت لنا المعلومات وعرفنا الكثير من الأسرار والخفايا، ونحن في ظرف دولي يقظ تحركه الرغبة في الخروج من هيمنة الرأسمالية العالمية، وكثيرا ما ننبه على تفعيل دور الجبهة الثقافية بكل مستوياتها وأطيافها وتعددها والاشتغال عليها حتى نتمكن من السيطرة على مقاليد المستقبل.

فالعالم اليوم يتحرك من تحت أقدام النظام الرأسمالي الذي يمارس الغبن والاستغلال للشعوب، بعد أن ربض هذا النظام ردحا من الزمن، ولم تجن الشعوب منه سوى الحروب والصراعات والانقسامات وتفشي روح الاستغلال والغبن للمقدرات، والتحكم بأقدار الناس وحيواتهم ورفاهيتهم وسعادتهم من خلال صناعة الأزمات, والفيروسات، والانتهاكات لقيم المحبة والسلام والتعايش السلمي والآمن بين الثقافات والحضارات، ومن خلال سعي الرأسمالية إلى العولمة، وتشكيل نظم اجتماعية لما بعد الحداثة يكون الفرد فيها حرا حرية مطلقة، لا تحكمه سوى المصالح المتبادلة، أو ما يؤمل من المصالح والمنافع دون أي اعتبار للقيم والمبادئ، ولا للقوانين والعهود الدولية، وما حدث ويحدث في اليمن وما حدث ويحدث بغزة دلائل واضحة على هذا التوجه.

اليوم إسرائيل تسرح وتمرح في المنطقة وتدير حروبها الممولة عربيا بغباء مفرط من الأنظمة العربية ذات الثراء والتي سوف تتحول إلى أهداف لإسرائيل في قابل الأيام ولم يعد هناك من ممانع ومن متصد لإسرائيل سوى اليمن التي تعجز إسرائيل عن مواجهتها فتعمل على ضرب مقدراتها الاقتصادية والخدمية، وهو سلوك لا تقره كل القوانين الدولية باعتباره سلوكاً غير إنساني يمس حياة الشعوب، ولن يفت هذا السلوك في عزيمة أهل اليمن فقد اعتادوا شظف العيش وغياب الخدمات منذ بدأ العدوان على اليمن عام 2015م إلى اليوم، وهو سلوك فاشي مقيت لن تجني إسرائيل منه سوى المزيد من الإصرار والصلابة في الموقف في حالة مشهودة من توازن الردع.



* المقال نقل من موقع الثورة نت ويعبر عن رأي الكاتب