السياسية :تقريرIIجميل القشم ***

يلفظ ميناء "إيلات"، المعروف تاريخياً بميناء أم الرشراش، أنفاسه الأخيرة تحت وطأة تراجع حاد في الحركة التجارية وتدهور متسارع في الإيرادات، ضمن مشهد تتداخل فيه المعطيات الاقتصادية والميدانية لرسم نهاية مرفق ظل يمثل شرياناً استراتيجياً للتجارة الإسرائيلية في البحر الأحمر.

تحت ضغط الانهيار المتراكم، أعلنت إدارة الميناء إغلاقه الكامل اعتباراً من الأحد 20 يوليو 2025م، بعد أن توقفت معظم عملياته وتجمدت حساباته المصرفية بسبب تراكم الديون، وجاء القرار كحصيلة لمسار طويل من العجز التشغيلي وفقدان الجدوى الاقتصادية، في وقت كانت فيه الضربات اليمنية تعمق الخلل وتسرّع الانهيار دون حاجة إلى مواجهة مباشرة أو وجود ميداني.

بدأت مؤشرات التراجع مطلع عام 2024م، مع انخفاض ملموس في حركة السفن الداخلة والخارجة، لتبلغ ذروتها في النصف الأول من عام 2025م بتسجيل ست سفن فقط، مقارنة بـ134 سفينة خلال 2023م، ما أدى إلى انكماش كامل في نشاط الميناء وتوقف سلاسل الإمداد المرتبطة به.

ترافق هذا التراجع مع انهيار حاد في الإيرادات، حيث تراجعت من 212 مليون شيكل في 2023م إلى 42 مليون شيكل في 2024م، ما أدى إلى عجز في الوفاء بالالتزامات التشغيلية، وتوقف صرف الأجور والصيانة الأساسية، وصولاً إلى فرض الحجز على حسابات الميناء البنكية من قبل بلدية "إيلات".

يشكل توقف الميناء ضربة حاسمة لقطاع السيارات في إسرائيل، إذ كان المرفأ يستقبل ما يقارب نصف واردات الكيان من المركبات، ويعالج قرابة مليوني طن من البضائع سنويا، إضافة إلى أكثر من 50 ألف حاوية تجارية بقيمة سوقية تقدر بستة مليارات دولار، ما يعطل مسارا محوريا في سلسلة الإمداد ويقوض واحدا من أبرز خطوط الاستيراد الحيوي في الجنوب.

وامتدت التأثيرات إلى قطاع التصدير، حيث تضررت حركة تصدير الفوسفات والبوتاس عبر الميناء، وهو ما يقدر بأرباح سنوية تصل إلى 4.1 مليارات دولار، كانت تُوجّه إلى الأسواق الآسيوية عبر ميناء أم الرشراش، ما يمثّل خسارة مزدوجة على مستوى الدخل والربط الخارجي.

أجبر الانهيار الإداري مئات العمال على مغادرة أعمالهم، بعد تسريح جماعي نفذته إدارة الميناء ضمن إجراءات تقليص شاملة، شملت تعطيل الأقسام الخدمية وإغلاق الورش الملاحية، ما أحدث موجة من السخط داخل القطاعات العمالية في المدينة ورفع منسوب التوتر الاجتماعي.

ساهم هذا الواقع في ارتفاع تكلفة الشحن البحري بأكثر من 25 بالمائة نتيجة تغيير مسارات السفن نحو موانئ بديلة شمالاً ما أدى إلى اختلال في مواعيد الوصول، وزيادة نفقات التوريد، وأثر على استقرار أسعار السلع، وسط بيئة تجارية تواجه ضغوطاً متزايدة على المستوى الداخلي.

شهدت مدينة إيلات نفسها انكماشاً اقتصادياً بلغ مستويات حادة، بخسارة نحو 15 بالمائة من دخلها السنوي نتيجة توقف الخدمات المرتبطة بالميناء، وفي مقدمتها قطاع الثروة السمكية، والصيانة، والنقل البري، والسياحة المرافقة، مما حول المدينة إلى منطقة عبء اقتصادي بدلاً عن كونها منفذاً استراتيجياً.

يرى مراقبون أن الاستهداف اليمني لميناء أم الرشراش "إيلات"، نقل المعركة إلى عمق المنظومة الاقتصادية الإسرائيلية، حيث لم تعد المرافق الحيوية بمنأى عن التأثير المباشر، في ظل توسّع نطاق الهجمات وتعاظم دقتها، ما غيّر قواعد الاشتباك وأعاد توزيع أدوات الضغط الإقليمي.

سجلت القوات المسلحة اليمنية آخر استهداف للميناء في 16 يوليو 2025، بثلاث طائرات مسيّرة أصابت مواقع تشغيلية في محيط الميناء ومرافق عسكرية في منطقة النقب، ما دفع بالإدارة إلى اتخاذ قرار الإغلاق بعد تكرار العجز عن الاستمرار.

يشير خبراء إلى أن التأثيرات المتتالية التي طالت الميناء منذ عام 2023م أفرزت واقعاً جديداً في البحر الأحمر، تبرز فيه صنعاء كقوة مؤثرة في تحديد ممرات التجارة ومسارات الملاحة، من خلال أدوات منخفضة الكلفة، مرتفعة الدقة، تُنتج نتائج استراتيجية دون تصعيد مباشر.

يظهر الميناء اليوم كحالة معبرة عن التراجع الكبير للتدفق التجاري تحت ضغط الاستهداف الذكي، إذ لم تتطلب السيطرة على البحر أو إغلاقه قوة عسكرية، وإنما بالاعتماد على سياسة الإرباك المنهجي، مما أخرج الميناء فعلياً من معادلة النقل الدولي.

أعادت هذه التحولات ترتيب أولويات الاستثمار البحري في إسرائيل، إذ أصبحت موانئ الجنوب عبئاً مالياً وأمنياً في آن، ما دفع باتجاه مراجعة خطط الربط البحري، وتعزيز الاعتماد على مرافئ الداخل، رغم ارتفاع تكاليفها وتعقيد خطوط إمدادها مقارنة بالموقع الجغرافي لإيلات.

تمتد آثار الإغلاق إلى بُعدين متلازمين: الاقتصادي والأمني، إذ لم يعد تراجع الميناء يُفهم كخسارة قطاعية محدودة، بل كعلامة على تبدل موازين التأثير في البحر الأحمر، مع صعود أدوات ضغط دقيقة وفعالة تعيد توزيع السيطرة بعيداً عن القوة التقليدية.

ما جرى لميناء أم الرشراش يشكل رسالة متعددة الاتجاهات، أبرزها أن كلفة إبقاء المرافئ مفتوحة في ظل بيئة تهديد نشطة باتت تفوق قدرة الاحتلال على التحمل، خاصة مع تعدد الجبهات وتزايد الضغط المالي والشعبي على مؤسسات القرار الداخلي.

وتظهر الخارطة الجديدة للممرات التجارية تبعات مباشرة لهذا الإغلاق، حيث تعيد الشركات حساباتها تجاه الموانئ الإسرائيلية، وتتجه إلى مسارات بديلة أكثر استقراراً، ما يحد من جاذبية الاستثمار البحري جنوباً، ويمنح صنعاء موقع تأثير متزايد في القرار التجاري الإقليمي.

ويمثل إغلاق ميناء إيلات تتويجاً لتحول عميق في موازين التأثير البحري في المنطقة، حيث برزت القدرة اليمنية على فرض الكلفة الاستراتيجية من خارج المعادلات التقليدية، ونجحت في إخراج منفذ حيوي من الخدمة بتراكم الضغط والضربات الدقيقة، هذا الإغلاق لا يحصر أثره في نطاقه الجغرافي، بل يفتح مرحلة جديدة في حسابات الردع والسيطرة، ويعيد رسم خريطة الملاحة والتجارة على امتداد البحر الأحمر.

سبأ