السياسية - وكالات:

لم يكن يتخيل الشاب كرم عبد الناصر وادي (20 عاماً) أن لحظة حريته ستكون أقسى من كل ليالي الاعتقال؛ فمشاهد الدمار التي استقبلته في مشروع بيت لاهيا، مسقط رأسه شمال قطاع غزة، كانت كفيلة بأن تحوّل فرحة الإفراج إلى صدمة لا تنتهي.


خرج كرم من المعتقل بعد أكثر من عام وثلاثة أشهر قضاها في سجون العدو الإسرائيلي، ليجد أن بيته صار ركاما، وأن أحبّته الذين كان يحلم بمعانقتهم قد غيّبتهم الحرب بين شهيد وأسير ومفقود.


يقول بصوتٍ يخنقه الحزن لـ صحيفة (فلسطين): "كنت أحلم بالعودة إلى حضن أبي وأشقائي، لكنني عدت لأبكيهم فوق تراب بيتنا المهدّم."


كان كرم يعيش أجمل فترات حياته قبل الحرب، يحتفل بنجاحه في الثانوية العامة بمعدل 81% في الفرع الأدبي، ويخطط لدراسة الوسائط المتعددة في الجامعة. لكن الحرب قلبت مسار حياته رأساً على عقب، حين اضطر للنزوح مع عائلته إلى مدرسة خليفة بن زايد التي اقتحمها جيش الاحتلال في التاسع من ديسمبر 2023.


يستذكر تلك اللحظة قائلاً: "طلبوا من جميع الرجال فوق 16 عاماً التجمع في الساحة. اعتقلوني مع نحو 300 آخرين. لم أعرف إلى أين يأخذوننا، لكنني كنت واثقاً أن طريق الألم بدأ للتو."


في السجون، ذاق كرم صنوف العذاب والإهمال الطبي المتعمّد. يقول: "أُصبت بالجرب وبقيت خمسة أشهر بلا علاج، ولا تزال آثاره على جسدي حتى الآن. كانوا يتعمّدون إذلالنا، يتّهموننا بالانتماء للفصائل والمشاركة في السابع من أكتوبر، ثم يعيدوننا للتحقيق والتعذيب إن أنكرنا."


وبين الجوع والقمع والانقطاع التام عن العالم، تلقّى كرم خبرًا أنهى ما تبقّى من صموده: "أسير من منطقتنا أخبرني أن والدي واثنين من إخوتي استشهدوا. لم أستطع البكاء... فقط شعرت أنني انهرت من الداخل."


لكن ما لم يكن يتخيله أن الواقع بعد الحرية سيكون أشد قسوة. فحين عاد إلى غزة، وجد أن اثنين آخرين من إخوته قد اعتُقلا، وأن بيتهم وكل ما حوله صار أثرًا بعد عين. جلس على ركام منزله يبكي بصمتٍ كل من رحل، وكل ما ضاع.


يقول بمرارة: "كل يوم أكتشف فقداً جديداً... جدتي، أعمامي، أبناء عمي، أصدقائي. لم يبقَ أحد كما كان."


كرم وادي، الذي كان يحلم بأن يصنع مستقبلاً زاهراً بكاميرته وعدسته، يقف اليوم في مواجهة واقعٍ لا يشبه الحياة. خرج من الأسر، لكنه يعيش أسيراً بين الركام، محاطًا بذاكرة مثقلة بالفقد، وجراح لا تُشفى.


في غزة، الحرية ليست نهاية الأسر.. بل بداية اختبارٍ أقسى، حين يكتشف الأسير المحرر أن السجن الحقيقي يبدأ بعد الخروج جراء تداعيات العدوان الاسرائيلي الهمجي على القطاع لأكثر من عامين متسببا باستشهاد أكثر من 68 ألفا وإصابة عشرات الآلاف وتدمير أكثر من 90 بالمئة من القطاع.