السياسية || محمد محسن الجوهري*

الدول اللقيطة هي أنظمة سياسية تأسست برعاية المخابرات الغربية بهدف تحقيق مصالح استراتيجية، على رأسها إبقاء العالم، ولا سيما المنطقة العربية في حالة صراع دائم. فالاتفاقيات الاستعمارية، كسايكس-بيكو، لم تفرز دولاً حقيقية ذات جذور تاريخية، بل كيانات مصطنعة أُوجدت لتكون أدوات طيّعة في يد القوى الكبرى، وحصوناً متقدمة لحماية مصالحها.

وقد حرصت القوى الاستعمارية على تزويد هذه الأنظمة بأجهزة استخبارات متطورة، هدفها الأول حماية النظام القائم، لا الشعب ولا السيادة. فهذه الأجهزة تمارس دوراً مزدوجاً: قمع المعارضين من جهة، وتشكيل الوعي الجمعي للشعوب من جهة أخرى، عبر التلاعب بسيكولوجية الجماهير، وبثّ الخوف من "أخطار وجودية" مزعومة، غالباً ما تكون مجرد أوهام تُضخَّم إعلامياً لتبرير سياسات القمع والاستبداد.

وهكذا، نجد أن الدول اللقيطة تُدار بعقلية أمنية صارمة، تتقن توظيف الإعلام كأداة لتوجيه الرأي العام، وتحشيده ضد عدو مختلق كلما اقتضت الحاجة. العدو لا يهدد النظام بالضرورة، بل يهدد مصالح القوى التي أنشأته، ولأجل هذه المصالح يُعاد تشكيل الوعي الوطني وفقاً للأجندة المرسومة.

ولعل دول الخليج تمثّل النموذج الأبرز لهذا النمط من الأنظمة. فهي كيانات صنعتها المخابرات البريطانية، ورُسمت لها هويات سياسية وثقافية مصطنعة، بدءاً من الحدود الجغرافية، مروراً بالسياسات الداخلية والخارجية، وانتهاءً بالأزياء واللهجات والثقافة الشعبية. وقد أبقيت شعوبها في حالة استنفار نفسي دائم، تحت وطأة الخوف من الخطر الإيراني أو اليمني أو حتى الفلسطيني أحياناً.

عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وسقوط نظام الشاه الموالي للغرب، سارعت أجهزة الاستخبارات الغربية إلى تضخيم خطر "تصدير الثورة"، لتبرير تحالفات عسكرية وسياسية ضد طهران، وحشد الخليجيين لدعم الحروب بالوكالة، ومنها الحرب العراقية الإيرانية التي استُنزف فيها الطرفان، وخرجت منها الولايات المتحدة الرابح الأكبر.

ومع تراجع زخم الثورة الإيرانية بعد رحيل الإمام الخميني، أُعيد تشكيل مسرح الصراع عبر استدراج النظام العراقي لغزو الكويت، وهو التحرك الذي تم بضوء أخضر غير مباشر من سفيرة الولايات المتحدة لدى بغداد، أبريل غلاسبي، لتدخل المنطقة بعد ذلك في دوامة من الحروب والعقوبات والاحتلالات، ما تزال آثارها قائمة حتى اليوم.

وفي جنوب آسيا، قامت المخابرات الباكستانية (ISI) بدور مشابه في أفغانستان، منذ ما قبل الغزو السوفيتي. إذ روجت لرواية "الخطر الأفغاني" على الأمن القومي الباكستاني، خصوصاً في ضوء النزاع الحدودي المزمن، ما أسهم في تحويل أفغانستان إلى ساحة حرب دائمة، تُستخدم فيها الجماعات المسلحة لتحقيق أجندات استخباراتية.

أما اليمن، فالصراع فيه مع المملكة السعودية ليس وليد اللحظة. فالسعودية، باعتبارها نظاماً سياسياً تأسس عبر التوسع على حساب الجغرافيا اليمنية والتاريخ اليمني، رأت دائماً في قيام دولة يمنية موحدة وقوية تهديداً وجودياً. ولهذا أنشأت الرياض لجنة خاصة لإثارة الانقسامات، ودعمت الانقلابات والاغتيالات، وكان أبرز ضحاياها الرئيس اليمني الشهيد إبراهيم الحمدي. وعندما فشلت تلك الأدوات في إسقاط الدولة اليمنية الحديثة، لجأت السعودية إلى التدخل العسكري المباشر عام 2015، تحت غطاء تحالف، بينما الهدف الحقيقي هو الحيلولة دون ولادة يمن حر ومستقل.

ليست أجهزة الاستخبارات في الدول اللقيطة مجرد أدوات لحماية الأنظمة، بل هي الحاكم الفعلي والموجِّه الأول لسياسات البلاد، والمُهندس الخفي لوعي الشعوب. إنها اليد الخفية التي تُمسك بخيوط اللعبة، وتمنع أي تحوّل نحو السيادة الحقيقية أو الإرادة الشعبية الحرة. وفي عالم تصنع فيه المخابرات التاريخ والهوية والعدو، يصبح تحرير الوعي الجمعي هو أول خطوة في معركة الاستقلال الحقيقي.

وأمام ذلك كله، لا بد من وعي شعبي واسع بخطورة العدو ودوره الواسع في التلاعب بنفسيات الجماهير، والاستثمار الوطني في الأجهزة الأمنية والإعلامية التي من شأنها التوعية بخطورة العدو وأساليبه التدميرية، خاصة وأن اليمن دولة أصيلة ولها تاريخ إسلامي مشرف، وهذا جعلها في مرمى المؤامرات الغربية والإقليمية، كما أن قيام دولة قوية في اليمن يشعر الأنظمة العميلة بقرب زوالها في حال استعاد الشعب اليمني ذاكرته التاريخية وقراره السياسي بعد ثورة 21 سبتمبر التي استعادة القرار السيادي من أيدي المخابرات المعادية إلى إرادة الشعب اليمني.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب