السياسية || محمد محسن الجوهري*

في ظل ما يتعرض له أهلنا في غزة من عدوان وحصار وتجويع، لا يمكن تفسير صمت قطاعات واسعة من أمتنا إلا بوصفه عارضًا خطيرًا لمرض يتسلل بصمت إلى جسد الشعوب: إنه مرض اللامبالاة.

هذا المرض لا ينبع من الجهل، بل من تخدير طويل المدى، تراكَمَ بفعل الترويض السياسي والإعلامي، وبفعل تحطيم مُمَنهج لأولويات الوعي العام، حتى أصبحت القضية الفلسطينية ـ بما تحمله من رمزية دينية وتاريخية وسياسية ـ لا تحتل إلا الهامش في وجدان البعض.

إن التخاذل الجماهيري ليس مبررًا، لكنه مفهوم حين يُترك الشارع دون قيادة توعوية، حين تُحاصر الكلمة الصادقة، ويُقمع الصوت الحر، وتُدجّن العقول باسم "الحياد" و"الانشغال بالداخل". فكيف لأمة بلا بوصلة أن تُبقي عينيها على قبلة الصراع؟

نعم، الشعوب اليوم مستهدفة قبل أن تُستهدف الجبهات. يُراد لها أن تنسى، أن تنكفئ على ذاتها، أن ترى في استهلاك اليوم بديلاً عن كرامة الغد. لكننا نقولها بوضوح: هذا الخدر لن يدوم، وهذا الصمت لن يُعفي أحدًا من المسؤولية.

على القيادات، على النخب، على المؤسسات، أن تعي أن معركة غزة ليست معركة حدود، بل معركة مصير، وأن الانتصار فيها لا يكون بالصمت، بل باتخاذ المواقف، وفضح الاحتلال، وفتح ساحات التعبير والدعم الشعبي.

وغزة لا تنتظر كلمات رثاء، بل مواقف حقيقية تليق بدماء الشهداء. مواقف تعيد الاعتبار لفلسطين في وعي الأمة، وتُسقِط كل مشاريع التطبيع، وتُعرّي كل خطابات الخنوع. اللامبالاة اليوم ليست مجرد شعور؛ إنها خيانة مواربة، جريمة بلا سلاح ظاهر. ومن لا يقف الآن، لن يجد غدًا ما يستحق أن يُدافع عنه.

ولنتذكر أن كل نكبة تعرضت لها الأمة كانت اللا-مبالة هي السبب الأول لوقوعها، فنكبة فلسطين 1948، ما كانت لتحدث لو بادر العرب حينها لمجابهة المشروع الصهيوني هناك، رغم أن التحذيرات من المشروع الصهيوني كانت متكررة وواضحة، خاصة مع ازدياد الهجرة اليهودية المدعومة من بريطانيا، لكن التعامل العربي والإسلامي معها اتسم بالبطء والتقاعس.

الزعامات العربية آنذاك كانت مختلفة في مواقفها، تتنازعها الخلافات والولاءات الأجنبية، وغالبًا ما قدمت المصالح القطرية على القضية المركزية، وتركت الشعوب بلا قيادة فعلية رغم حجم التعاطف الكبير مع القضية الفلسطينية، فكانت النتيجة قيام الكيان الصهيوني عام 1948، وتهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني في واحدة من أكبر النكبات في تاريخ العرب المعاصر.

وكذلك الحال في الأندلس قبل ستة قرون تقريباً، عندما تحالف كثير من أمراء الطوائف مع الملوك المسيحيين ضد بعضهم البعض، بينما كانت الممالك النصرانية في الشمال تتوحد وتخطط للنيل من المسلمين، فكانت الكارثة بتساقط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى وصولا إلى سقوط غرناطة عام 1492وانتهاء الحكم الإسلامي هناك.

وحال الأمة اليوم لا يختلف عن حال ملوك الطوائف، ومن يعتقد منهم أن الخطر بعيد عنه فقد وقع في فخ أسلافه من حكام الأندلس، وسيأتي عليهم الدور عاجلاً أم آجلاً، وكما سقطت فلسطين ستتساقط ممالك العرب وجمهورياتهم الشكلية تباعاً ما لم يتحركوا اليوم لتدارك الخطر قبل وقوعه.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب