الإمارات أصل العرب
السياسية || محمد محسن الجوهري*
بدأ الأمر في البداية كمادة ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حين راج مصطلح "الإمارات أصل العرب" ضمن تعليقات تسخر من محاولات إعلامية متكررة لتضخيم دور دولة مصطنعة في رسم معالم العروبة وتحديد هوية العربي الحقيقي. لكن ما كان يُضحك بالأمس، تحول اليوم إلى خطاب رسمي تتبناه أبوظبي، وتسعى من خلاله إلى تقديم نفسها كمرجعية ثقافية وقومية في المنطقة، بل وكأنها الجهة الوحيدة المخولة بتعريف العروبة وفرز من يستحق الانتماء إليها ممن لا يستحق.
هذا التصور ما كان ليجد له مكاناً لولا غياب المشروع العربي الموحد، وانكفاء دول عربية كبرى على هويات ما قبل العروبة. فمصر أعادت خلق الفرعونية وتوغلت في تمجيدها على حساب حقيقتها العربي، واليمن انشغل بإحياء الممالك الحميرية والسبئية وكأن العروبة وافدة عليه، ودول المغرب العربي خاضت صراعاً طويلاً بين الأمازيغية والعربية، ما أدى إلى انسحاب تدريجي للعروبة من المشهد الثقافي والسياسي في تلك الدول. ومع هذا الانسحاب، بدت الإمارات وكأنها الوحيدة التي ترفع راية العروبة، أو على الأقل تحتكر تعريفها.
ترافق هذا مع نشاط إعلامي واسع، فوسائل مثل "سكاي نيوز عربية" و"العربية" باتت تعيد تشكيل الخطاب العربي على مقاس أبوظبي والرياض. يتم فيها تصنيف من يرفض التطبيع أو يتبنى خطاب المقاومة كخارج عن العروبة، وغالباً ما يُتهم بالخيانة أو بالارتباط بمحاور غير عربية كإيران وما تسميها بجماعات الإسلام السياسي. بينما يُقدَّم المتماهون مع السياسات الإماراتية بوصفهم رموزاً للعقلانية والاعتدال، وبالتالي يستحقون تمثيل العروبة الجديدة. الإعلام هنا لا يكتفي بتوجيه الرأي العام، بل يسهم في هندسة هوية ثقافية يتم الترويج لها بشكل ناعم لكنه مستمر، بحيث تصبح الرواية الإماراتية للعروبة أكثر رسوخاً، ولو على حساب التاريخ والواقع.
حتى الشخصيات التاريخية لم تسلم من هذا التوظيف. فقبائل بني ياس وآل نهيان تُقدَّم الآن كامتداد طبيعي للأصول العدنانية والقحطانية، بما يوحي بأن الإمارات تحتضن جذور العرب القديمة. ولا تُذكر القبائل الكبرى في اليمن أو العراق أو الشام إلا في سياقات سلبية أو محايدة. والهدف من ذلك واضح: نزع المشروعية التاريخية عن أي صوت خارج التصور الإماراتي الحديث للعروبة، الذي يفضل أن تكون العروبة بلا هوية سياسية، بلا مقاومة، بلا امتداد شعبي.
في السياق ذاته، أطلقت الإمارات مشاريع ثقافية ضخمة مثل مجمع اللغة العربية في الشارقة، ومبادرات تمويل الشعر واللغة، وأحيت برامج مثل "شاعر المليون" لتقديم نفسها كراعية أولى للفصحى والتراث العربي. هذه المشاريع تبدو في ظاهرها بريئة، لكنها جزء من إعادة هندسة المشهد الثقافي العربي، وتحويل اللغة إلى أداة ناعمة تعزز المكانة الرمزية للإمارات، وتغطي على مشاريعها السياسية، خصوصاً فيما يتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية.
ومما يعزز هذا التوجه ما رأيناه في معرض إكسبو 2020، حيث ظهر الجناح الإماراتي وكأنه يحكي تاريخاً إماراتياً خاصاً يمتد آلاف السنين، فيما لم تُمنح هوية العرب الآخرين إلا مساحات هامشية أو مؤطرة بالرؤية الإماراتية. هذا التقديم المتقن يرسخ في وعي الزائر، ومن خلفه الجمهور العربي، أن الإمارات ليست مجرد دولة خليجية غنية، بل هي مركز ثقافي حضاري، وربما المرجعية الوحيدة للعروبة الممكنة في عصر الانهيارات.
المفارقة الكبرى أن هذه الدولة التي تقدّم نفسها كحامية للعروبة، تمضي قدمًا في علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وتقصي من العروبة كل من يناهض هذا الاتجاه. الأمر الذي يجعل من العروبة المروّج لها مجرد قشرة ثقافية لتبرير مشروع سياسي معين، وليست هوية حقيقية ذات محتوى مقاوم أو موحد. ومن هنا، فإن من الأجدر التساؤل بجدية: هل باتت العروبة مشروعًا فارغًا من مضمونه، ليُملأ بأي محتوى تراه القوة الإعلامية المهيمنة مناسباً؟ أم أن إعادة إنتاجها على يد الإمارات هي مجرد استثمار في الفراغ العربي الكبير؟
* المقال يعبر عن رأي الكاتب