السياسية || محمد محسن الجوهري*

ورثت أمريكا تركة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وعلى رأسها بريطانيا، لكنها لم تعتمد في توسعها على الجيوش فحسب، بل على منظومة اقتصادية مصاغة بعناية تحت اسم "الرأسمالية". هذه المنظومة قُدّمت للعالم لا كنظام اقتصادي فقط، بل كعقيدة لا تقبل التشكيك، وفُرضت على الدول قسرًا، تحت التهديد بالعقوبات أو التدخل العسكري. ومعها أصبح الدولار، مجرد ورقة بلا غطاء ذهبي منذ سبعينيات القرن الماضي، بمثابة "الوثن المقدس" الذي يجب على البشرية أن تتعامل به، رغم أنه لا يحمل أي قيمة ذاتية خارج كونه أداة للهيمنة.

لكن هذا الصنم بدأ يتشقق، بل ينهار بصمت.
الزلزال الأول جاء من قلب المعقل ذاته، حين وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أول مرة ثم ثانية، حاملاً فكراً مناهضاً للعولمة والرأسمالية التي كانت تُقدّسها أمريكا لعقود. فرض رسوماً جمركية ضخمة، انسحب من اتفاقيات تجارية، وحاصر منافسيه تجارياً، غير آبه بالقيم الليبرالية التي طالما استخدمها سلفه كغطاء للتوسع.

هذا الانكفاء الأمريكي لم يكن معزولاً؛ بل تزامن مع حركة عالمية متصاعدة لإعادة النظر في النموذج الرأسمالي ذاته. الصين مثلاً، طورت نموذجاً اقتصادياً هجينا يرفض الخضوع الكامل لحرية السوق، ويعتمد على تدخل الدولة القوي في توجيه الاقتصاد، وها هي تنافس أمريكا في كل المجالات. روسيا، من جانبها، نجحت رغم العقوبات الغربية في بناء اقتصاد مقاوم يعتمد على الطاقة والتبادل المباشر بالعملات المحلية، بعيداً عن الدولار. حتى الاتحاد الأوروبي، الحليف التاريخي لواشنطن، بدأ في البحث عن بدائل اقتصادية ومصرفية، منها "إنستكس" لتجاوز العقوبات الأمريكية على إيران، وأبدى استعداده لاستخدام اليورو في التبادلات الدولية بدل الدولار.

أما في أمريكا اللاتينية، فتتوالى الانتخابات التي تأتي بقوى يسارية ترفع شعار "التحرر من الهيمنة الاقتصادية الأمريكية"، كما حصل في بوليفيا والبرازيل وكولومبيا. إفريقيا أيضاً تشهد يقظة متزايدة، حيث بدأت دول مثل مالي وبوركينا فاسو بالتحرر من التبعية الفرنسية والأمريكية، وبدأت تتجه شرقًا، نحو الصين وروسيا.

العملات البديلة تتكاثر، وتزايدت الدعوات لإنهاء الاعتماد على الدولار في المبادلات الدولية، حتى في أوساط حلفاء واشنطن. مجموعة "بريكس" تسير بخطى حثيثة نحو إنشاء عملة موحدة، وها هي الهند والصين وروسيا تبرم اتفاقيات تجارية بالروبل واليوان.

الرأسمالية الأمريكية لم تعد الحلم الذي يسعى إليه العالم، بل أصبحت عبئًا، مرادفًا للفقر لدى الجنوب العالمي، والتقشف لدى الأوروبيين، والركود لدى الأمريكيين أنفسهم. كل المؤشرات تشير إلى أن هذا النموذج الذي كان يُروّج له كـ"نهاية التاريخ" يواجه نهايته هو.

ولو تأملنا بنية الاقتصاد الأمريكي نفسه، لوجدنا أنها أقرب إلى الانكشاف منها إلى الصلابة. الديون الفيدرالية تتجاوز 34 تريليون دولار، وعملة الدولار لم تعد مرتبطة بأي غطاء مادي، وإنما مدعومة فقط بـ"الثقة" و"الطلب الإجباري"، المفروض على دول العالم، وفي مقدمتها دول الخليج. هذه الدول، التي تملك أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم، تبيع ثرواتها بالدولار الأمريكي حصراً، وتعيد ضخ العائدات في البنوك الأمريكية وسندات الخزانة، وكأنها "صمام الأمان" الأخير للاقتصاد الأمريكي.

إنها حلقة مغلقة من التبعية المالية، تجعل واشنطن قادرة على طباعة ما تشاء من الدولارات، ثم استرداد قيمتها الحقيقية من عرق وموارد الشعوب الأخرى. وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا تبقى دول الخليج، تحديدًا، تحت العباءة الأمريكية؟ لماذا لا تتجه نحو الانفكاك من هذا الارتهان؟ لماذا لا تستثمر ثرواتها في بناء صناعاتها الوطنية وتنويع أسواقها وتحقيق استقلالها الاقتصادي الفعلي؟

الجواب المؤلم أن العلاقة بين واشنطن والخليج لم تُبنَ فقط على المصالح الاقتصادية، بل على شبكة عميقة من الأمن، والتحالفات، والنفوذ، والتداخل السياسي والعسكري. الولايات المتحدة لم تكن حليفًا اقتصاديًا فقط، بل وصيًّا فعليًا على مسار القرار الخليجي في كثير من المراحل. وحين حاولت بعض الدول كسر هذا النمط، وجدت نفسها في عزلة سياسية أو ضغوط داخلية أو حملات تشويه إعلامي.

لكن الرياح تغيّرت، والعالم لم يعد كما كان. هناك اليوم فرصة حقيقية أمام دول الخليج لإعادة صياغة موقعها من الخريطة الجيوسياسية، بالاستفادة من تعدد الأقطاب، ومن تصدع مركزية واشنطن. المطلوب فقط هو الإرادة، والشجاعة، والتفكير خارج الصندوق الأمريكي الذي حاصر المنطقة عقودًا طويلة.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب