إيران أولى بالتهديد والابتزاز
السياسية || محمد محسن الجوهري*
من المستفز، حدّ الغثيان، أن تجد خليجيًا يقف على منصةٍ إعلامية أو أمام كاميرا قناةٍ أجنبية ليهدد إيران بأمريكا، وكأنّه يملك مفاتيح البنتاغون أو يتحكم بخيوط قرار واشنطن. يصرّح ببرود أن مفاوضات مسقط هي “فرصتها الأخيرة” لكسب رضا البيت الأبيض، متناسياً – أو متغافلاً – أن إيران لم تضع يومًا مصيرها بيد واشنطن كما فعلت أنظمة الخليج، ولم تبنِ اقتصادها على فتات الدولار، ولا تنتظر إذنًا أمريكياً لتزرع قمحاً أو تطوّر صاروخًا أو تفتح جامعة.
هؤلاء الذين يتوعدون إيران وهم يستقوون بالأمريكي، ينسون أن هذا الأخير ليس من أبناء المنطقة، بل غريبٌ اقتحمها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من وراء المحيطات. جيشه لم يأتِ ليبني أو ليحرر، بل ليرسم حدود الطاعة ويحدد سقف الكلام. وعلى مدار عقود، ما إن تهمس دولةٌ خليجية بفكرة الاستقلال أو التنويع السياسي، حتى يُفتح لها ملف في الخارجية الأمريكية، وتُطلق عليها حملة تشويه إعلامية، أو تُهدد بالعقوبات، أو ربما تُدبّر لها "ثورة داخلية" إن تطلب الأمر.
أما إيران، فهي وإن اختلف معها البعض أو اتفق، تبقى كياناً طبيعياً في الجغرافيا، موجودة قبل الولايات المتحدة بقرون، ولم تضع سفينة حربية في مياه خليج المكسيك، ولا أرسلت جيوشها إلى السواحل الأمريكية، لكنها بالمقابل، محاصرة بالعقوبات، ومُلاحقة دبلوماسيًا، وتُستهدف أمنيًا كلما حاولت أن تطوّر ذاتها.
هذا المشهد يعيدنا إلى زمن الشاه، عندما كانت إيران نفسها أداة أمريكية، وكان الشاه "رجل واشنطن" في المنطقة بلا منازع. كانت دول الخليج تُعامل كتوابع للعرش الإيراني، لا تجرؤ على معارضته، ولا تملك حتى حق الاعتراض على تدخله في شؤونها. كانت طهران هي مركز القرار الإقليمي بغطاء أمريكي كامل. فهل يحنُّ بعض الخليجيين إلى هذا النموذج القديم؟ هل يرغبون حقًا في أن تكون إيران "بوليس المنطقة" من جديد، لأنهم عاجزون عن صياغة سيادةٍ حقيقية بأنفسهم؟
يبدو أن الجواب نعم. فبعض الأنظمة الخليجية لا تفضل التبعية على السيادة فقط، بل تكره الحرية إن جاءت. تتخلى عن القرار المستقل طوعًا، وتبحث في الخارج عن سلطة جديدة تحكمها باسم "الحماية". ولهذا، فإن إيران – التي لا تبعد أكثر من بضع كيلومترات – أحق بهذه الوصاية، إن كان لا بد من وصاية، من أمريكا التي تحتاج إلى 12 ساعة طيران و10 قواعد عسكرية لتصل إلى هنا. على الأقل، الجغرافيا تبرر نفوذ إيران، أما الأمريكي فليس له من شرعية إلا تلك التي تمنحها له صفقات السلاح وودائع النفط.
الأسوأ أن بعض دول الخليج لا تكتفي بالتبعية، بل تتحول إلى أدواتٍ فاعلة في زعزعة استقرار إيران. تمويل الجماعات التخريبية في الداخل الإيراني، ودعم الحملات الإعلامية المعادية، وتمرير العمليات السرية بالتنسيق مع "الموساد"، كلها حقائق كشفتها تقارير غربية وإسرائيلية قبل أن تقولها طهران. هذه الدول بجهالة أو بقصد، تتحول إلى رأس حربة لمشروع صهيوني خالص، هدفه ضرب أي قوة إقليمية مستقلة لا تسير في الفلك الأمريكي.
ومع كل ذلك، لا نرى من إيران تهديدًا مباشرًا لجيرانها الخليجيين، لا غزوًا ولا استعمارًا، ولا محاولات فرض الوصاية السياسية عليهم كما تفعل واشنطن. بل بالعكس، لا تزال طهران تُبقي باب التفاوض مفتوحًا، وتبحث عن علاقات طبيعية ومتوازنة مع دول المنطقة، لأن استقرار الخليج من استقرار إيران، والعكس صحيح.
لكن يبدو أن الرغبة في الاستعباد أقوى من غريزة البقاء، وأن بعض الأنظمة تفضل الانبطاح تحت أقدام الجندي الأمريكي، على أن تتعامل بنديّة مع شريك إقليمي مثلها. وهنا، لا بد أن نسأل: إذا كانت أمريكا هي الضامن لأمن الخليج، فلماذا هُزمت في اليمن؟ ولماذا هُددت السعودية بالصواريخ؟ ولماذا لم يمنع "التحالف" أكبر عملية ضرب لمنشآت أرامكو في بقيق؟
ربما آن الأوان ليدرك أهل الخليج أن الحماية الحقيقية لا تأتي من البوارج، ولا من القواعد، بل من الحوار مع الجيران، والتفاهم مع الشركاء الطبيعيين، والتخلص من وهم "الاحتلال الاختياري" الذي حوّلهم إلى مخازن سلاح وقواعد أجنبية.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

