السياسية || محمد محسن الجوهري*

يظنّ حكّام الخليج أن ما تعانيه غزة قدر لا يصيب سواها، وأنهم بتوقيعهم اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني قد ابتاعوا أمنهم بثمن خيانة القضية الفلسطينية، متوهمين أن الحماية تأتي من الرضوخ، وأن القصور المحروسة بالتكنولوجيا الغربية ستصمد أمام أي غضب قادم. لكن الحقيقة التي يهربون منها أن الخيانة لا تحمي بل تفضح، ولا تؤمّن بل تفتح أبواب الهلاك من حيث لا يحتسبون.
لقد بات واضحًا أن الأنظمة الخليجية المتآكلة تعيش على أوهام التحالفات الدولية، وتراهن على الدعم الأجنبي لتثبيت سلطتها، متجاهلة أن النيران التي تلتهم غزة منذ سنوات قد تقترب من عواصمهم في لحظة خاطفة. فغزة، رغم الجراح والحصار، تقف صامدة، حاملة همّ أمة كاملة. أما هم، فمهزوزون رغم مليارات النفط، يختبئون خلف حدودٍ رُسمت لهم، لا يملكون الدفاع عنها ولا حتى قرار تغييرها.
أثبتت السنوات الأخيرة أن العدو لا يصادق أحدًا، بل يستخدم الجميع. من هرولوا إلى التطبيع لم يحصدوا سوى الازدراء. قالها أحد وزراء الاحتلال بصراحة: "ليس للخليج أصدقاء، نحن نأخذ منهم ما نريد، ثم نطلب المزيد". وفي تسريبات صحفية عبرية، وصف قادة الاحتلال حلفاءهم الخليجيين بـ"الأدوات المؤقتة". فهل يُرتجى من مثل هذا العدو حماية أو وفاء؟ بل إن تقارير عديدة، ومنها تقرير لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية نُشر في 2024، تؤكد أن تل أبيب مستعدة للتخلي عن شركائها الخليجيين إذا اندلعت حرب كبرى مع محور المقاومة، وأنها لم تلتزم يومًا إلا بمصالحها الذاتية.
التاريخ لا يرحم الخائنين. من وقّعوا قبلكم مع العدو، أين صاروا؟ السادات اغتيل على يد من رآه خائنًا، ومبارك خُلع بثورة شعبية رغم عقود من التنسيق الأمني، والسلطة الفلسطينية التي اختارت طريق أوسلو لا تزال تُذل كل يوم على يد الاحتلال، ولم تسلم من نقمة شعوبها. أما أنتم، فتظنون أن مصيركم سيكون مختلفًا، رغم أنكم تكررون الأخطاء ذاتها، ولكن بأموال أكثر ومواقف أوهن.
شعوب الخليج ليست غائبة عن هذا المشهد. الاحتقان الداخلي في تصاعد، البطالة تنهش الشباب في السعودية، الحريات معدومة في الإمارات، الاقتصاد البحريني على حافة الانهيار، وقطر تحاول أن تشتري دورًا وسط نار الاصطفاف الإقليمي. هذه الشعوب التي تُستغل ثرواتها في شراء الرضا الإسرائيلي والأمريكي، لا تملك اليوم لا الكرامة ولا الحرية، وتُساق إلى مستقبلٍ مجهول تُرسم معالمه خارج إرادتها.
وإذا كانت غزة تُقصف بالصواريخ، فإن المواطن الخليجي يُقصف يوميًا بالإذلال، بالتجسس، بالإفقار، وبالاصطفاف الإجباري مع عدوّه التاريخي. من باع كرامته مرة، لن يجدها حين يحتاج إليها. الخيانة ليست سياسة، بل انتحار مؤجل. من يعتقد أن سقوط غزة لن يتكرر عنده، لم يفهم بعد سنن التاريخ. النار التي لا تطفئها الكرامة تحرق الجميع.
غزة ليست عبئًا، بل إنذارًا مبكرًا. من لم يستفق على صراخها، سيستفيق على انهياره الخاص. ولن يرحم الناس من رأوه يصافح قاتلهم، ولن يثق العدو بمن رأى فيه خيانة لأخيه. غزة اليوم ليست مجرد جرح مفتوح، بل نبوءة دامغة: أن من لم يتعلّم من دمها، سيغرق في دمه، ولو بعد حين.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب